الأشياء الصغيرة صالحة لإثارة الدهشة والحزن أيضاً

مايو 27, 2012 | رجفة أثوابهم البيض | 0 تعليقات

سعيد الكفراوي
يقدم ناشر” رجفة أثوابهم البيض” للقاص السعودي ” يوسف المحيميد” بعبارة “المسافة الشاسعة بين الإنا والآخر: وإن كانت المسافة لا تطرح على أنها قدرية، بل كموضوع للتأمل وإعادة النظر والفهم. فالكتابة عند يوسف المحيميد تمتلك القدرة على حذف مالا طائل فيه بالتجربة القصصية. وتعرف الطريق إلى ترك مساحات يبدعها القارئ ويشاركه من خلالها في حدس والسؤال”..

أغلب الظن، أن هذا الفهم لمضمون هذه الكتابة، هو تصور الكاتب نفسه لتجربته القصصية في هذه المجموعة، وإدراكه لفعل الكتابة، باعتبار الكتابة الحديثة، والنص المغاير الذي لا يقوم على عالم مغلق، محدد سلفا، بل يقوم على فضاء مفتوح على الاحتمالات باعتبار تلك الاحتمالات هي المرجعية الأكثر تحققا في وعي هذه الكتابة.
هذه الحساسية الفنية يعرفها الروائي “ادوار الخراط” بأنها: ” ليست قيمة شكلية فقط، بل هي أساسا قيمة دلالية، وإن الدوال هنا – بدءا من نوع نسيج الكلمات، وتركيب الجملة وسياق الألفاظ ومحدودية أو ثراء القاموس المستخدم، بل واختيار الأماكن والأسماء والأزمان القصصية وتحديدها أو تجهيلها لا من حيث أنها موضوع أو مادة للعمل القصصي، بل من حيث أنها اختيارات ” نصية” ” أو شكلية في سياق آخر” تشير إلى القصد القصصي – سواء كان واعيا أو غير واع”..
بهذا التعريف الذي سعى: نحو التوجه إلى كتابة ما يسمى بالنص الحديث، ذلك النص الذي يدفعنا في كل تجلياته لطرح الأسئلة للوصول إلى الفهم مرة، وإلى التعاطف مرات عندما نقرأ هذه الكتابة الجميلة في هذه المجموعة الصغيرة لتؤكد ومن خلال رؤيتها الذاتية: أن ثمة قطيعة مع النص القديم المستعاد، والمستنزف سلفا، والذي يدور في خوائه.
هل تحمل هذه الكتابة بالفعل مسافة شاسعة بين الإنا والآخر؟
هل ثمة فردية واستعلاء، ورؤى فوقية تتطلع لحركة الحياة اليومية البسيطة “التي غالبا ما تشكل أحلامنا” والتقاط هذه الأشياء اليومية وجعلها فنا يثير الحنين، ويجعل للكتابة معنى؟
بالقطع لا توجد في اعتقادي تلك المسافة الشاسعة بين الإنا والآخر. بل يتحقق الاندماج، والتعاطف والتالف، ومسحة من حنان ومحبة بين الإناء ومجمل الأشياء والمخلوقات والحيوات التي تواجه القمع والوحدة، ومن ثم أهوال الحياة والموت..
تطمح المجموعة إلى رسم علاقات إنسانية شديدة الرهانة داخل واقع يحافظ على التقاليد. ويدافع عنها في فضاء المكان والزمان، ومن ثم كان طموح هذه الكتابة النفاذ إلى ما وراء المكان والأشياء في زمانهم المتعين، التاريخي، فاستعانت بما هو يومي، نثري، حلمي، هامش لتنفذ إلى الجوهري عبر مجمل الوقائع التي حدثت بالفعل، ليمكننا التعرف على لحظات إنسانية يؤطرها هذا الواقع الاجتماعي.
تنقسم مجموعة القصص ” رجفة أثوابهم البيض” إلى ستة أقسام ” عناوين إذا أردت” هي:
القسم الأول: ” أسباب عديدة لسفر وحيد” وتندرج تحت هذا القسم قصص الحشرة والريش والقادم. والقسم الثاني: ” أسئلة بأجنحة خفيفة” وتندرج تحته قصص: انكفاء واغتسال وارتباك ويوسف. والقسم الثالث بعنوان: ” صباحات، شوارع، مكاتب، ويضم: ممعنات في أعمالهن وصباح أول وهدى. والقسم الرابع “تفاصيل ليست ذات جدوى” ويضم ضفائر نحاس وحياة أخرى والقسم الخامس” أرواح طافية” ويضم بساطا وقلبا. والقسم السادس ” قصص الوحشة” ويضم المشي والسطوة. ثم أخيرا ” شغب الأشياء” ويضم الأشياء والحذاء.
لعل يوسف المحيميد أحد الكتاب الذين يقدمون بجدة النص القصير، البائر، المستفيد من النص الشعري النثري، متجاوزا التقليدي السردي المشغولة وقائعه بلغة القواميس القديمة، القائمة على الإنشاء. النص في شريعة هذا الكاتب مهموم بما يسمى بتيار الوعي ” وعي شخصياته” والنفاذ إلى هذا الوعي بالحلم، ومراقبة الأشياء في الواقع ومحاولته إعطاءها المعنى الفني. يشارك المحيميد في هذا الهم الإبداعي كتاب كإبراهيم أصلان ومحمد المخزنجي وبعض أعمال يحيى الطاهر عبدالله القصيرة وفهد العتيق وبعض أعمال القاصة السعودية قماشة السيف ورجاء عالم، وسعد الدوسري وفهد الخليوي.
أهمية أعمال هذا الكاتب أنها سعى لحداثة جديدة في القص السعودي تستهدف شروطا جديدة في القص وتخلق مضمونا منتزعا من لحم الواقع الاجتماعي.
إن هذا الكاتب يعرف كيف يبتعث الحنين، ويمتلك مقدرة خاصة على تأمل ما هو هامشي، ويومي وإعطاؤه معنى ليواجه من خلاله النقائض في الواقع..
وبين الحلمي، والشعري، والحياد المضفور بالأحزان القديمة، الكامنة في القلب منذ ميلاد الأشياء الأولى، وبين مواجهة شروط العيش في المكان، والواقع المحيط “سواء كان هذا الواقع: واقع الكبار أو سلطة الآباء، أو حضور الأشياء الصغيرة المدهشة، أو تلمس تلك العلاقات التي تكون في النظر الآخر ارتباطنا بالحياة” تأتي هذه القصص في قصة ” الحشرة” ثمة أربعة يقبضون على الراوي شبيه الأب. يضعونه داخل صندوق سيارة حمراء. مغطى بشراع أبيض كالكفن. حين يكمن في سجنه، وتختفي الدنيا، ويسمع صوت المطر والريح يتوق للحرية. وعندما يتحرر من القيد يفاجأ بظلمة، وبأن الرجال الثلاثة يغادرون، يختلط الزمان بالمكان السوريالي المبتعث، وكأنما الراوي توقف عند الحد الفاصل بين الموت والحياة فيبدأ بالغناء..
لماذا عندما فاجاه الرعب غنى؟
هل كان يأمل في دفع المخاوف- الاسر، ومن ثم الموت بالغناء؟ نهاية مفتوحة على الاحتمالات، والإجابة تظل معلقة بين ما هو واقعي وغير واقعي..
أما قصة ” الريش” غير المباشرة، النافذة إلى قلب المعنى والمتورطة في الأمثولة التي لا تغيب عن افهامنا، وحيث يؤدي المجاز الفني بها: إلى أن التهام الحمام، التهام لحرياتنا. فالذي توسط السوق يراقب لحظة من نهاره اليومي. ثمة واجهات زجاجية، وتذكارات عن أم غائب، وأقفاص لحمائم بيض. وباعة ويتحركون في المشهد بقدرية واقع قديم، ثابت له دوام وحضور كالقدر الهابط العصى على التغيير، وامرأة تطاردها العصى من رصيف لرصيف حيث يشاهد الراوي وقبل أن يغيبه الحزن ” قبل أن يلتهمه الشارع الضيق، ليشاهد سيارة نقل تغادر، بينما نواح حمائم بيضاء يخفت رويدا رويداً، وغبار يشتد في مواقف السوق، سيمشي خافضا رأسه باستمرار بجوار مطعم، وفي المطعم سيتراءى له رجل بأن يلمح على شفتيه بعض ريش البيض، سيبكى”..
ينتمي جانب من كتابة هذا الكاتب إلى ” حافة الطفولة” أعني المشهد الطفولي في القص الحديث، الذي كون عبر كتابات مهمة ملمحا أساسيا في اختيارات هذه الكتابة. من المشهد الطفولي يتم تصفية هموم الكبار، ويتجلى العالم عبر عيني طفل لتطل مرة أخرى منها على اكتشاف المأساة والدهشة.
أن هؤلاء الماثلين في بؤرة المشهد، في تضاعيف الواقع المأزوم بالثبات، وفي غمار البحث عن إجابة للسؤال على الآباء الذين يعيشون الماضي وكأنه كل الأزمنة، وساحات المدارس- المبتلة بالمطر، الرغبة في ثني الأوراق لصنع قوارب الريح في برك الماء الصغيرة، والبسط المقلمة بالألوان المفروشة على الأرض، والخدم الذين يعشقون وجه الله ويصعدون الدرج حاملين لأسيادهم القساة، على رؤوسهم ما يؤكد تلك العلاقة غير العادلة، المسابيح السوداء التي لها رائحة الليل، الباب القصير بضلفتيه، المنازل المتعانقة في قاع ” عليشة” الحي القديم الآتي من أزمان موغلة، أشجار الكينا الضخمة تحتها الظل، لا تأتي بالان والستر، الفصول مغلقة النوافذ تحبس حركة الصغار ورغبتهم في التحديق في الضوء، حيز المكان المحاط بفضاء لا نهائي، المكان الذي قال عنه ” بشلار” ” المكان هنا كل شيء حيث يعجز الزمن عن تسريع الذاكرة” وحيث تبحث الشخوص عن الدفء في مجالس الآباء المنعقد، تطوف به الحكايا القديمة، والمسامرات التي لا تنتهي…
تنهض الطفولة في هذه القصص باعتبارها الوسيط للاستبصار، للتأمل ومن خلالها ندرك الوجود الإنساني غير المباشر في قصص القارب واغتسال وارتباك ويوسف وممعنات في أعمالهن.
في قصة ” اغتيال”…
هل كان السؤال محزما ” طيب لماذا؟” هل كان هو أول الأسئلة أم أخرها؟ هل محاولة الغلام الفهم، واعتراض الوالد بدعوته لغسل لسانه حتى لا يقترف الحرام بداية للحيرة الأولى، واصطراع الفطرة؟
ثمة وشائج خفية بين الغلام والأب المنتظر مصيره الإنساني، والذي ” ظل حتى إذا ما ضبطته أمي وهو يسحب قدميه دون أن يرفعهما، ويتحسس بين الجدران الأشياء من حوله، كان يقول ” شوف مثل الصقر”…
والشوف هنا تحديق في الأبدية، وإحساس يكمن في قلب الأب بالمصير النهائي لكل حي: إنه الموت المغيب عن الغلام، عديم الفهم والذي ابتدأ يطرق الأبواب الموصدة على الأسئلة العصية بقلق الخطأ الأول ” واستمررت، لسنوات طويلة، أغسل لسني عشرات المرات، واسأل كثيرا، حتى لتعطيني قاعات الدرس إلى ممراتها، ووجدتني بغتة، خارج الأسوار العالية، لكنني بقيت وحدي أفض الطرقات وأسأل”..
في قصة ” يوسف” محاولة أخرى للتعرف على الذات خلال علاقتهما بواقعها، الذي يقود لمجرد ملامسة الأشياء. التي دائما ما تقوده للرغبة في البكاء..
هل البكاء في هذا النص يأتي بسبب الرحيل؟
وهل فراق الأم الأبدي عزاؤه الوحيد التحقق على صفحة جريدة يطيرها الهواء وقد احتوت صفحتها أول قصص ” يوسف”؟
يوسف من؟
الراوي أم الكاتب؟
أم كلاهما شخص واحد. شخص اكسبه الحزن دلالة المعنى الذي ينهض دائما فلا يجد إلا عينين مبتلتين.
يوظف الكاتب، من غير شك: الحلم والذاكرة توظيفا عادلا. وسائط للاستبصار تنفذ خلال هذا العالم الصغير، المكتشف. تصبح الذاكرة في عمل هذا الكاتب الوعاء الذي يحتوي الأشياء من الميلاد للموت. أشياء الآباء، والأمهات، والشوارع، والبنات الصغار الطيبات.
في قصة ” ممعنات في أعمالهن” وأنا أتصورها من أفضل قصص المجموعة. نرى في غرفة التدبير المنزلي أقدامهن الصغيرة مصحوبات بالشغب. ثمة فرح في المكان، وبهجة تحدثها الحركة النشطة لبنات في عمر الزهور.” تحت الطاولة، على الخزانة الخشبية، جوار الفرن، خلف باب الغرفة مباشرة، إذ تفتحه السيدة، فتتدحرج كرة الصوف الذهبية، تلتمع فتضيء الغرفة، ويتناثر صف البنات صوب أماكنهن، وينهمكن في أشغالهن، لكن السيدة الكبيرة ظلت دهشة ترصد ” الأشياء المقلوبة” تخطو صوب النوافذ محجوبة الستائر خضراء مخملية تنزعها سريعا عن النافذة “….” تشاهد النافذة العالية التي لم تفتح يوما على الشارع، محكم إغلاقها جيدا، تتطاول، وتمس إطار النافذة بأصابعها الطويلة حتى اطمأنت إلى أنها مغلقة تماما طوال الصيف،فأدارت وجهها مرعوبة نحو البنات الصغيرات ممعنات في أعمالهن”..
ثمة حاجز خفي يدفع لإغلاق النوافذ. أن ترى العالم عبر نافذة مفتوحة على الفضاء، والحرية. حقيقة أولية وحق مكتسب أن غلق النافذة عند البنات، مجرد احتجاب الشمس والمطر والريح يعني دعوة للعيش في الداخل المغلق…
في قصة ” حياة أخرى” سعى للاستفادة من الطقوس القديمة ومحاولة في توظيف الأسطورة في هذا النص بالذات…
أن مجمل أعمال الكاتب تتكئ على مفردات الحياة اليومية الحميمة. قصة ” حياة أخرى” الذي حاول فيها استخدام أسطورة الأضحية ليؤكد الفعل الإنساني. نرى في هذه القصة لون الدم، والذبح، والتعرف على المرأة الغريبة ذات السن الذهبية.
فداء تفدى به الأم والأب الذي رحل” فجأة وقفت جوارنا امرأة غريبة وبدينة في يدها سكين كبيرة، تلتمع في الضحى، أودعتها يد أمي، بعد أن غمزتها يد أمي السكين نحوي، فتناولتها مرتعشا ونظرت نحو امرأة غريبة كانت قد أدارت وجهها الملفوف بالسواد عني “…..” ثم وجدتني أمشي صوب الشجرة “…” ارتفعت قوائم الضحية عاليا “….” رمقتني أمي بنظرة قاسية: أمسك السكين بيدك اليمنى “…..” كانت يدي اليسرى ترتعش وهي تهم بإمساك رأس الضحية، بينما شفرة السكين القاطعة تلامس شعرات العنق البيضاء، وأمي تلح بعناد: أنجز. بدأت يدي التي تتحرك، وتغرز الكين في الجلد، ويتراشق الدم في عنق الضحية، من يدي فأشعر بالدوار وسط حزير الدم وصراخ أمي وشخير طويل لا آخر له”..
ثمة بتر، وذبح، وفداء لا رواح راحلة، ثمة معاول للخرافة في تمزيق الأشلاء وكأنها العودة القديمة لمجابهة مخاوفنا.
ثمة شعرية في النص خففت من الإحساس بنفاذ السكين، ولون الدم وضربات أرجل الحيوان في الخفقة الأخيرة للحياة. وبرغم هذه الشعرية فإن السن الذهبية، آخر المشهد، لم تستطع أبدا أن تزيح عن القلب الإحساس بشفرة السكين..
تجل أخيرا في أعمال يوسف المحيميد وهو تجلى ” الخروج”. أقصد تردد الحلم في النصوص بمكان آخر، مكان يخفق الألفة مع الأشياء الغريبة. توق للحضور في الماء والشجر والمرافئ البعيدة للحنين، للمسافات المفتوحة في البلاد الغريبة..
” بعد تردد غامرت للمرة الأولى في ليل الدقى، بأن هززت قدمي وأستلمتها لرصيف شارع محي الدين أبو العز، كنت فرحا وأنا أشعر برفيف المعاطف والجلابيات يحفني” ” قصة المشي”..
” عانقته” وهمست في أذنه ” القاهرة تحت سطوتي”. ضحكنا عاليا، وتقافزنا معا مجتازين الشارع الضاج، لتتعالى أبواق السيارات المتسارعة قبل أن تغيب في الزحام” ” قصة السطوة..
” أنا أعرف جيدا أن أصدقائي الآخرين في كل مكان، شاهدوا الدنيا الواسعة، وخرجوا إلى الأشجار والشوارع، وهبطوا من السماء العالية، اندفاعا، حتى غمروا ساحات المدينة: ” قصة الماء”
وأخيرا وبعد هذه القراءة المتانية لعمل المحيميد يظل السؤال: هل ثمة مسافة شاسعة بين الإنا والأخر؟
في تصوري ليس هناك مسافة فاصلة. هناك امتزاج بين الألفة، وصور الحياة الصغيرة المدهشة، المكتوبة بإحساس المبدع الخجول الذي لا يمتح من شاعرية اللغة، ولكن يمتح من شاعرية المكان والأشياء والذاكرة والحلم ينابيع الفن الجميل…

جريدة اليوم-عدد7780 في 3/10/1994م

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *