محمد الحرز
منذ إصداره الأول “ظهيرة لا مشاة لها” في أواخر الثمانينيات اعتمد يوسف المحيميد من منظور أدواته الإبداعية على تقنية الوصف باعتبارها تقنية ترتكز على عناصر ثلاثة: المجاز والتحفيز والمشابهة, وهي عناصر تفضي بالسرد إلى التكثيف والتقطير، لذلك نجد شخصيات قصصه تخضع في متوالياتها السردية لمتطلبات الخطاب وليس للواقع، أو كما يسميها بيتر بلاكست تخضع لمشابهة الواقع,
وهذه إحدى المهمات الأساسية للسرد القصصي. لقد جرى تدويل هذه التقنية أيضا في مجموعته القصصية اللاحقة “رجفة أثوابهم البيض” الصادرة في بداية عقد التسعينيات, ولكن عبر مقاربات موضوعية تتصل بثنائية (الحلم والواقع), وسوف نقترب أكثر من هذه المجموعة فيما يلي تاركين الأسباب والمبررات فيما يليها من تحليل.
يقول آراغون في فلاح باريس: “لا أظن أن الحلم هو تماما نقيض الفكر ما أعرفه منه يجعلني أميل إلى الاعتقاد بأنه ليس إلا شكلا من الفكر أكثر حرية وأكثر خصوبة”.إن دلالة المقولة تتأصل تماما في تمظهرات تلك الثنائية من خلال البنية السردية للنص، حيث سنحاول تتبع مجمل هذه الثنائية باعتبارها تعكس الوعي السردي للكاتب.إن الكتابة عنده تأخذ أبعادها المعمارية أو تتشكل في القص- كما قلنا سابقا- عبر بناء السياق النصي لثنائية (الواقع/ الحلم) التي يبحث الكاتب من زاويتها عن عالمه القصصي تاركا انثيالات اللحظة بارتهاناتها النفسية والاجتماعية والثقافية تستمد جذورها من تدفقات اللاشعور, وهو بذلك يفتح أفقا قصصيا ينطلق من الذات وإليها يعود وفق مشروطية هذه الثنائية. من هذا المنطلق نراه يرصد حركة الحلم وهو يتشظى أمام الواقع المعاش بلغة إيحائية مكثفة تعطي انطباعا على إمكانية تجاوز التمحور الذاتي وتعديه، وبالتالي ينفتح النص على القراءة الواعية وفي عدة اتجاهات فمنذ اللحظة الأولى التي ندخل فيها إلى عالم هذه المجموعة نجد أن العنوان يضعنا أمام هذه الثنائية وبشكل صدامي مؤثر يجعل القارئ يستشعر عمق الحدث المنتظر المتغلغل داخل البنية السردية للمجموعة فكلمة (رجفة) وما تحيله من دلالة صوتية على أثر حتمي نتيجة لفعل تصادمي نجده في كلمة (أثوابهم البيض) من دلالة على وجود القيم المثالية المتجسدة عبر الحلم المقموع. تشير بدلالة واضحة على تحرك هذه الثنائية عبر غالبية قصص المجموعة ففي أولى قصص المجموعة (الحشرة) يفتتح السارد القص:
(كانوا أربعة وقفوا بجوار فراشي أيقظوني بغير اسمي فقفزت مذعورا لم أتعرف على أي منهم…، وما أن لمح النوم المباغت يدلي برأسي فوق صدري حتى أعطى الرجال معه إشارة حملوني بعدها). يتجلى الصراع محسوسا ظاهريا بين الواقع المتمثل في الرجال وبين الحلم المتمثل في تداعياته المكانية، الأمر الذي يبرر غياب اسم السارد. إنه يفتح للقارئ بعدا واقعيا يعيد به صياغة الواقع الراهن وإنتاجه على المستوى الحلمي وتخيله. وحينما نضع أيدينا على قصة (الريش) القصة الثانية في المجموعة نلاحظ أنه استلهم عناصر الطبيعة في التعبير عن (الحلم/ الواقع) بآليات فنية ينفتح فيها فضاء النص على مستويين من الحركة، يرتكزان على رؤية إبداعية في معرفة الواقع والتقاط أبعاده السلبية, وذلك عبر صياغة المتن القصصي بلغة شعرية تشحن دلالاتها بالطاقة الرمزية كوظيفة سردية داخل وعي الكتابة الإبداعية. فالمستوى الأول: مستوى حركة الواقع اليومي الملتصق بهمومه ومشكلاته اليومية (ويمكن أن نطلق عليه بالمستوى الأفقي للقصة). حيث من بدايتها نجد أنفسنا في وسط السوق إذ يبدأ السارد بوصف الشخصية والمكان: (توسط السوق وتلفت طويلا باحثا عن الباعة الآخرين وليس هناك سوى واجهات المحلات الزجاجية الأنيقة ودهشة وجهه وغيمات سود تلوح في الأفق البعيد) هنا نتوقف قليلا حيث يلحُّ علينا وبشدة سؤال هو: لماذا اختار القاص الأماكن المفتوحة في غالب قصصه لتكون الأرضية التي يشيد عليها بناءه القصصي مثل: السوق – ساحة المدرسة – الشارع – الرصيف – عتبة المنـزل – وبما أن المكان عنصر من عناصر البناء الفني لا يمكن الاستغناء عنه إطلاقا، وأخذا بمقولة: (إن المكان مؤنث) لـ”النفري” تبرز أهمية المكان في وعي الكاتب ومدى فاعليته في القصة, لذا يبدو أن تلك الأماكن التي عمد إلى اختيارها الكاتب لها دلالات وقيم تعمل على ربط الواقعي بالرمزي في علاقة تتشكل داخل دائرة البناء الفني, إذ إن الأماكن المفتوحة ذات الأبعاد المتعددة، إنما لجأ إليها القاص عن قصد أو دون قصد، حتى يعكس من خلال الوصف الموضوعي والوصف النفسي للمكان المتخيل انعدام حركية الحلم داخل المكان – الواقع الذي يضم أكبر شريحة للمجتمع ونحن نعلم بالطبع أن الشارع مثلا من الأماكن المزدحمة الصاخبة المليئة بالفوضى وهو المقياس الحراري للحياة العربية العامة وكأنما – أيضا – أراد الكاتب أن يجسد موقف المجتمع بما يفرزه من سلبيات تجاه القيم والمثل المحلقة عبر أجنحة الحلم. إذن نحن أمام حركة مكانية مركبة تأتي لتوحد أطراف التجربة القصصية, وتعطيها بعدها الخاص وحينما نأتي إلى المقطع السابق تنكشف دلالات المكان عن بنية إيقاعية تندرج ضمن مدارات الحقل الرمزي, ومستوى تحركه لتمتد وتتمظهر عبر آليات السرد وتقنياته, حيث تبدأ من: (وغيمات سود كثيفة تلوح في الأفق البعيد) وتمتد إلى.. (وعاد بأقفاص حمائمه البيض… فاشتعل جلدها الأسمر… بينما نواح حمائم بيضاء يخف رويدا رويدا… يتراءى له أن على شفتيه بعض ريش أبيض) وهذا ما يجعلها (القصة) تظهر بحركة متناسقة تحمل سمات الإيقاع المتكئ على الصورة الشعرية الرامزة… فأحداث القصة في مستواها الأفقي هي عبارة عن كيان كلي لا يعاش إلا من خلال القراءة لاحتوائها على تفاصيل مشهدية مشتبكة الحدث فيها, الأسطوري والعادي وهذه ميزة لا نجدها فقط في غالبية قصص المجموعة، إنما تنسحب
لا حقا على وعي التجربة السردي في تحولاته من الشعر إلى الرواية باعتبارها مرجعية سردية لا تنفك تعطي نفسها قيمة فنية مع كل نص ينجزه يوسف.
أما المستوى الثاني مستوى حركة الرمز (المستوى العمودي للقصة) حيث يتشكل الرمز ويظهر من خلال (الشاب النحيل) وهو يحمل أقفاص حمائمه البيض، إذ من هنا يتلون الرمز ليدخل في شبكة من العلاقات تضيء حركة النص. فعندما يتنقل الشاب بهواجسه ويطلقها في الفضاء الرحب, يفاجأ بوطأة الشارع وثقلها على الاستبطانات الشعورية للشخصية, وكذلك على رؤيته وموقفه من الحياة حينما نرى انعكاس ذلك على رؤيته للأشياء من حوله، وبالتالي على المنظور السردي للشخصية في تطابقها مع منظور الراوي العليم، وهنا نصل إلى الوطأة المزدوجة التي تنتهي بالهزيمة مرة مع الواقع وأخرى مع السرد: (بينما نواح حمائم بيضاء يخف رويدا، رويدا)… (سيمشي خافضا رأسه). إنها الهزيمة المؤدية إلى الموت (سيلمح رجلا يتراءى له بأن على شفتيه بعض ريش أبيض سيبكي) حيث الفعل المضارع المستقبلي ( سيبكي ) يفتح زاوية يضيء خلالها الرؤية المستقبلية للقاص… إنها رؤية مأساوية تسيطر على أجواء القص.
إن خلاصة هذه المقاربة تعكس لنا إجمالا ظاهرتين تتحكم فيهما حركة التجاذب بين بلاغة الخطاب من جهة، وبين تمثلات الواقع من جهة أخرى. الأولى تتصل بالمرجعيات والتقاليد السردية للنوع الأدبي، والثانية تتصل بالقناعات الفكرية والثقافية والنفسية للسارد التي وجدناها تتطابق تماما مع قناعات الكاتب نفسه. وما بينهما نصل إلى نتيجة، ألا وهي بمقدار ما تتطابق وتتوافق هذه القناعات داخل السرد يجد القارئ نفسه أمام جماليات تنحاز في وجهة نظرها إلى بلاغة السرد وليس للشخوص، أي إن المسافة الفاصلة بينهما تتحكم فيه البنية الاستعارية للقص. الأمر الذي يجعل من شخوص القصص مجرد دلالة مؤسلبة كما يؤكد على ذلك “نورثوروب فراي” حينما أشار على الطبيعة المزدوجة لوظيفة القص بين الصياغات الاستعارية الموروثة وبين الرغبة في احتواء الواقع كمحاكاة أفلاطونية. ونحن لا نزعم أن لهذه الطبيعة المزدوجة امتدادا في الوعي السردي عند يوسف، وإنما نشير ضمن تحولاته السردية، التي سنجدها
لا حقا في منجزه الروائي، إلا أنه أحال وضعية السارد في غالب نصوصه القصصية إلى وضعية تأويلية وكأنه يجرب الدخول في لعبة الاستيهام ليس مع القارئ فقط، وإنما كذلك مع مجمل شخوصه القصصية، وهذه إحدى أهم شعريات السرد التي سوف يقوم يوسف بتوظيفها في عمله الذي سنقترب منه في المقالة المقبلة.
جريدة الوطن- الثلاثاء 26 صفر 1426هـ الموافق 5 أبريل 2005م العدد (1649)
0 تعليق