د. صلاح السروى
هذا صوت صادق وجاد من العربية السعودية، يرتحل بنا – بوعي نافذ- إلى مادون قشرة الوفرة والغنى التي تتصدر الخيال عند الحديث عن هذه البلاد. بمبضعه حتى نخاع الوجود المادي والروحي للإنسان هناك. نازعا الطلاء المبهر. كاشفا العظام عارية دون زيف… ودون افتعال كذلك. متجاوزا رومانسية قصص الحب البدوية المستهلكة، فليلتحق بكتيبة الباحثين عن الحل الجمالي الأكثر واقعية وعصرية لقضية التعبير عن وضيعة إنسان مجتمعاتنا العربية، الرازح بين مطرقة السلطة- النظام الاجتماعي وسندان التقاليد،
وكلاهما ينتمي إلى عالم ما قبل عصرنا، فيبرز بذلك “القسوة” التي تمثل خلاصة الوضعية كما يمثلها هذا العنوان الذي قد يبدو غريبا، ولكنه دال”ظهيرة لا مشاة لها”، إنها صحراء الحياة الفاصلة، حيث لا فيء ولا ظل يحمي من هجيرها، فيستحيل التعايش معها أو التصالح مع مواضوعاتها، إن ذلك فوق الطاقة الممكنة للإنسان الذي هو يحكم كينونته- باحث أبدا عن الحياة والحرية.
هكذا تفتتح أمامنا شفرات هذه المجموعة العصية، فتأخذنا مسارب متنوعة إلى عالم “القسوة” الذي تترجم عنه، فنجد أنفسنا أمام جوهر موضوعي واحد يتبدى في لقطات مختلفة تؤكد إحداها الأخرى وتصل ما انقطع منها، وهذه المجموعة إذ تسعى إلى تأكيد رؤيتها تلك عن عالمها فإنها تسعى بالتوازي مع ذلك- ونتيجة له إبراز حبها الجارف للحية وتعلقها اللانهائي بها، فتحصل بذلك على تلك الثنائية المتداخلة المتصارعة أبدا… الحياة- القسوة، فتنأى المجموعة بنصها عن العدمية لتصل إلى فعالية واقعية أخاذة.
تتبدى القسوة أول ما تتبدى في التقاليد الاجتماعية المغلقة المحافظة، التي تجعل من العلاقة بين الرجل و المرأة أمرا معضلا يقترب من حد الاستحالة، من التابو، فتتحول المرأة في مخيلة الرجل من كائن آدمي يمكن أن يشبع احتياجاته العاطفية والطبيعية، من رفيق حميم في مشوار الحياة ليتم التكامل والتساند الضروريان بينهما – تتحول المرأة إلى كائن أسطوري بعيد المنال، محرم يفح جنسا ورزيلة. ولأنه صعب المنال مع الاحتياج البالغ اليه فإن المخيلة تلعب دورها في طقس الاستحضار المحرم وينفتح الباب على مصراعيه أمام الشذوذ والخيالات المرضية. في قصة “الظل” تدهمنا هذه العبارة للوهلة الأولى:”هذا الليل الأحمق يجيئني كلما مل الضوء التحديق الغبي في وجهي” فيبدو لنا على نحو مفهوم مدى قسوة الوحدة والملل واللامعنى التي يعانيها البطل. أن مشكلته الأساسية تكمن فيما يحمله له الليل من عذابات والآم ناتجة عن وحدته، فيخلو إلى هواجسه وأطيافه وأحلامه المليئة بالرغبة والكبت معا، أن” التحديق الغبي” الذي يقوم به الضوء- على غرابة الصورة- يش بإنعدام فاعلية البطل وتعطله النفسي المادي نتيجة لافتقاده الشريك الطبيعي الذي يمكن أن يشحن حياته بالمعنى والقيمة، إلا أن هذا التعطل لا يعني التخلص من المشكلة، بل يعني الاكتواء بنارها فتتحدى قدرته على التعامل معها رغبته في الحياة ذاتها: ” قال الآخر: لم أنت قلق وحزين؟؟ قلت: الليل يملني كثيرا. – دعه يبتعد عنك قليلا- في دهشة واستجداء- كيف ؟؟ ص6.
فالقلق والحزن و الاستجداء والدهشة هنا تحمل دلالات التعلق البالغ بإمكانية الحل إن وجدت بالرغبة في الحياة بشكل طبيعي. وحين ينصحه صديقه بالسير على الأرصفة ظهرا، لعل الضوء يمنحه “ظلا” تتفجر كلمة “ظل” بمعان لا حد لها. فالضوء هو نقيض الليل الذي يحاصره بالملل والوحدة، ولذلك فالضوء هو وحده الذي يمكن أن يمنحه ظلا مع الأخذ في الاعتبار أهمية علاقة التناقض بين الضوء والظل رغم سكون الظل متولد تلقائيا عن الضوء، وإذا كان الظل هو القرين والرفيق الملازم والشريك المتماهي في الإنسان فهو ألصق ما يمكن أن يلتصق به الآخرين فإننا نحصل على دلالات موحية ومعان جديدة تماما للمرأة والاحتياج إليها. مما يزيد من إلحاح هذا الاحتياج أنه يصادف صديقه” في حين كان ظله المثير يمتد إلى الرصيف دون أن تمتد يده نحوي” فكلمة المثير تلك تعطي دلالات الاشتهاء والرغبة التي تختلج في نفس البطل ولا تنسى القصة أن تؤكد هذا المعنى بإبراز التمعن في تفاصيل الشكل الخارجي لظل صديقه: ” أعين ساهمة، شعر مرتفع من الأمام، وينساب بنعومة إلى الخلف “… الخ ص7. إذن ها نحن أما نتيجة جديدة للفشل في الحصول على ظل خاص لبطلنا، إنه يشتهي ويمتلئ إعجابا واستشاره عند أول التقاء بظل، حتى وإن كان لغيره، وهنا يلعب الخيال لعبته البارعة، فحين يودع صديقه يكتشف بشكل تدريجي أن ظل صديقه يتبعه هو، وبعد محاولات مفتعلة لطرده، فإنه يستجيب لما تمليه عليه الحالة:” خلعت ملابسي وهو يخلع مثلي، إرتميت على السرير العفن، وكان يرتمي معي بنفس اللحظة، ولكن ساقيه ممدودتان للسقف وشعرت بالشوق والرطوبة واللذة والرعشة والنوم ” ص9 فيتحقق للبطل ما يبغيه في عالم الخيال الذي يعمل بشكل مستقل تماما وكحل لا بديل له للأزمة..
إن هذا التصور للمرأة “الظل” يتطور بعد ذلك لتصبح المرأة “سيدة الأسماء” في القصة المعنونة بنفس العبارة فترتفع إلى حد القداسة، كما أن طقس الاستحضار يتطور هو الآخر ليصبح رحلة طويلة تمتد من”العراف” إلى “الدخان” إلى الحديث مع” الصديق” وتنتهي كالعادة بالحلم. إن المرأة هنا تنفصل عن الواقع املادي لتنتمي إلى عالم أسطوري هيولى غير ملموس :” لها يدان كالحبال لا تنتهي رأس بحجم دائرة مضرجة بالهتاف، حناجر طويلة، عصفور جميل يغني داخل فمها الصغير، صدرها يصعد إلى الفضاء ويتجاوز كل الأيدي العالية” ص55 وحين وحين تتوه أقدامه في رحلة البحث الأسطورية تلك فإنه يلجأ إلى الليل والحلم، ولكن الجديد أن هذا كله لا ينتهي بالانتشاء كما رأينا قبل قليل، إنه ينتهي بأن يقول:” أشتهي البكاء أشتهيه” ص61، وذلك نتيجة للإحساس بالحسرة والكآبة بعد احباطه في الحصول على هذه المرأة العنقاء المستحيلة.
ويتواصل هذا التعثر والبحث المكدود في قصة ” ترنيمة لفاصلة الأبيض” حيث تبدأ بباحة الفندق و” كل النساء يتمطين أزرعة رجالهن والفندق يرقص أو يغني” مما يفاقم من إحساسه بوطأة الوحدة والإنفراد، إلا أنه عندما تتلقى عيناه بها يبدأ في إسقاط كل أحلامه وتصوراته لأنشاء المرتجاة عليها” الحذاء.. القميص.. الأكف.. المشي.. التوقف.. الانتظار.. التوجس، حتى العباءة هي. وفاصلة الأبيض هي كل شيء هي ” ص65 وينتهي أمره معها بأن تضطرم في عقله كل الأفكار التي تسلم تلقائيا إلى ” السفر” إليها،إنها هنا المرفأ والواحة وبديل كل أتشتت واللا انتماء، وهذا يقربها من الصفات الأسطورية في القصة السابقة وهو مايشى بالافتقاد المطلق للأنثى.
وكمعادلة لكل الإحباط والحرمان الذي يعانيه بطل المجموعة فإنه يسعى إلى استرجاع هذه العلاقة المستحيلة أيام كانت ممكنة وبسيطة في عمر الطفولة الأول، حيث التلقائية الطليقة غير المكبلة بقيود الافتعال. فنجده في قصة ” التراب” يزاوج بين شجار القطط وممارستها التلقائية لحاجتها الطبيعية، وبين تحولات العلاقة بين الطفل والطفلة. ولعل عنوان ” التراب” يحمل من دلالات الطبيعة التلقائية التي لا تأبه بكل ما هو مفتعل وغير موافق لقوانينها الشيء الكثير. وهكذا نجد أن كاتبنا لم تقهره تلك القسوة بصورة مطلقة إنما بقيت هناك مساخة لتجميد الحياة والبكارة والنصوع.
وعلى صعيد آخر تتبدى القسوة عنوانا للعلاقات الاجتماعية الطبقية وللوجود الاجتماعي لأبطال يوسف المحيميد. فعلاقة الاستغلال والتعالي التي يمارسها الكبار والأغنياء، وحالات الإحباط والانكسار التي يعانيها الفقراء والضعفاء، تشكل عصب الجزء الآخر من قصص هذه المجموعة. في قصة ” الجريدة” تلاحظ معاناة ” الولد” بائع الجرائد في سعيه بين العربات وبين دكان سالم اليماني المالك البليد الذي لا يصنع شيئا سوى إيذاء الولد والتدخين والتحديق إلى الشرفة حيث تسكن امرأة سمينه، ولا تنحصر متاعب الولد في علاقته بالمالك، وإنما في علاقته بأصحاب السيارات كذلك، فيتعاملون معه بكبر وتعال فوق طاقة الاحتمال، ولعل أسم ” الولد” قد تولد من ندائهم له. وهو ما يصغر من شأنه ويحط به إلى مرتبة الخدم مما يشى بتناولهم المتخلف لقضية العمل برمته، حتى أنه في آخر مواقفه معهم يقع ضحية لعبث مجموعة من الصبية المراهقين الذين يستقلون سيارة يعجز عن” سداد ثمنها حتى ولو ظل يعمل طوال حياته” فيعطونه بدلا من الريالات بصقة كبيرة تملأ وجهه مع ضحكة مجلجلة وصرير مدو. ولا يخفى هنا القهر المزدوج الذي يعاني البطل من صاحب الدكان من ناحية وأصحاب السيارات من ناحية أخرى. ولكننا نلاحظ إلى جانب ذلك. الصفات المشتركة التي تجمعها، فصاحب الدكان العاطل الذي لا يمل التحديق الرخيص لا يختلف عن أصحاب السيارات المترفين اللا هين مما يوحدهما معا ويجعلهما يلتقيان لإكمال دائرة القسوة التي يعانيها إنسان المجموعة. وهذا المعنى نجده قريبا مما جاء في قصة ” ذلك وجهي” حيث تصبح رحلة البحث عن عمل هي المحور الذي تدور حوله عوامل إحباط البطل. إن هذا الفقير الجائع، وفي نفس الوقت المحاط بكل وسائل وأشكال الرفاهية، يشكل هو في ذاته علامة استفهام كبيرة، فهي صورة تحتوي من التناقض والتنافر وعدم الاتساق ما يجعلها محلا للتساؤل حول وجودها ذاته، ويتحول الأمر إلى مفارقة طريقة ولكنها محزنة عندما نعرف أن محنته تتبدى عندما يذهب إلى القابلة التي جاءت في إعلان طلب سكرتيرين، ولكن وجهه البائس الذي يشى بفقره يحول دون قبوله، فيصبح ذلك الوجه هو جوهر الأزمة سببها ونتيجتها في نفس الوقت، فالنظام الاجتماعي الذي صنع بظروفه وعلاقاته هذه الحالة البائسة للإنسان هو نفسه الذي يتذرع بقبحه للقضاء عليه، فتكون النتيجة هي اغتراب الإنسان عن ذاته بعد أن أغترب عن مجتمعه، وقد اقترب من حافة الجنون.
والقضية التي تسوقها قصة” ذلك وجهي” لا تقتصر على مشكلة الوجه القبيح الذي يعصف بمستقبل صاحبه، وإنما تمتد لتشمل قبح وجه العالم المحيط يإنسان القصة بكامله.. فبداية تلاحظ الانفصال المعتمد الذي يسوقه الكاتب بين البطل ووجهه حين يقول:” أنتزع منديلا لأمسح به المرأة جيدا، فتظهر ملامح وجهي. أبتسم له، يبتسم معي بنفس اللحظة، أضحك بعمق. أصمت.. يستمر وجهي يضحك في المرآة” ص36 فكأننا أمام كائنين مستقلين يمارس كل منهما ما يتراءى له في انفصال عن الآخر، وكأن هذه الوجه ليس خلقته وإنما هو شيء قد ألصق به، ولعل في هذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه قبل قليل من أن النظام الاجتماعي هو الذي صنع بظروفه وعلاقته الجائزة هذا الوجه البائس. وربما يؤكد ذلك عنوان القصة ” ذلك وجهي” وكأنه يحاول إقناعنا عبثا بشيء غير حقيقي. مما يؤكد أن هذا الوجه وإن كان هو وجه بطل القصة إلا أنه ليس خاصا به تماما، فالقبح والدمامة أشمل وأعم: فالرجل ذو العمامة المقبعة الذي” تتناوب أصابعه نخر فتحتي أنفه ليلتصق ما يعلق بها بظهر المقعد المقابل”ص38 ويدخن في الأتوبيس مما يؤدي إلى تأفف باقي الركاب، والسائق البدوي الذي يلتفت بين لحظة وأخرى إلى” صبي أملس الوجه بشفتين ممتلئتين فيتأوه بلوعة وحزن”، يواصل بعد ذلك ممارسة اهتماماته الشاذة، والرجل الذي بلا أطراف سفلي المتكوم وسط علبة كرتون على الرصيف بيد مبتورة وأخرى ممدودة..” لله يا محسنين” كل هذه العناصر وغيرها تحاول أن ترسم صورة أكبر للدمامة والقبح الذين يشملان هذا المجتمع متضافرين في ذلك مع حالة إنسان القصة، وما يمارس تجاهه من قهر وحكم عليه بالضياع والجنون. وهي كلها عناصر تجتمع لتصنع معا المفارقة المفجعة، الثراء البالغ والفقر حتى التسول إضافة إلى التشوه الروحي والأخلاقي الذي يقترب من – بل يتجاوز- حد الشذوذ. وتجتمع كل هذه العناصر أيضا لتكمل حصار القسوة المضروب بإحكام حول أبطال المجموعة، حتى أنهم لا يستطيعون من هذا الحصار فكاكا إلا بالجنون أو الموت أو الانزواء في ركن قصي واجترار التعاسة والبؤس، وكلها أشكال من الاحتجاج السلبي على هذه الوضيعة. وكيف يمكنهم الاحتجاج الايجابي أمام هذا العالم الذي أجمع على الامتثال للتشوه والشذوذ، والتوحد بالقهر في مبالاة غبية( كثيرا ما نلاحظ عبارات مثل:” الناس ينعسون على الرصيف “. وحين نتجاوزهم يديرون رؤوسهم نحونا ويعلقون بكلمات ساخرة أو يضحكون” ص21 ، ” وجوه السائقين والباعة تتطلع نحوي..” ص41 ” تشرئب الأعناق إلى الأسقف، وتطل الأعين من نوافذ الخشب، يصمت الصمت”.. “جميع الجماجم تناقضني حين اهتزت توافقه” ص44، ” يدخل الحي المصاب بالطأطأة” ص47، ” البدوي يلتف فروه من صوف نعاجه وينزوي في ضحيته. أهله يجهزون رواحلهم والجري يقتات عنقه” ص32) ولعل النموذج الأبرز الذي يمكن أن يوضح هذه الوضيعة هو قصة ” محدود الدم” هذا الرجل الذي يأخذ منزله الطيني في الانهيار بفعل المطر العنيف، وعبثا يحاول منع هذا الانهيار إلى أن يصاب بالجنون، إن هذا المنزل الطيني هو الوحيد الباقي في هذه الضاحية، وقد حرص عليه صاحبه لأنه يذكره بملحمة بنائه مع رفاقه في الزمن القديم أيام كان الناس يتساندون كما تتساند البيوت الطينية، وحرص عليه كذلك لفقره الشديد في عالم الأغنياء. وعند انهيار المنزل يصرون على ضرورة إزالة بقاياه من الموجود رغم توسلات صديقه الوحيد ( الراوي في القصة). وعندما ينقل محدود الدم إلى المستشفى بأبي جسده أن يعطي قطرة دم واحدة من أجل التحاليل، وهذا ليس موقفا اختياريا، فالراوي يلاحظ أنه بجوار ملفه قد استقلت بعوضه منتفخة بالدماء. وهكذا تلخص القصة الوضعية بأكملها بإيجاز دال بليغ ففقره المادي = فقره في الدم. ليس صدفة، إنما هو نتيجة مباشرة لعلاقة مستغل ( بكسر الغين) أمستغل( بفتحها. وربما كان إيراد رمز البعوضة مقصودا الإيحاء بضعة وحمق و جلافة الطرف الأول، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل الإشارات الهامة التي تسوقها القصة عن أن بؤسه هذا ناتج أيضا عن خضوع مواطنيه، و تغرده وحده بالكبرياء الذي أصبح نادرا:” عيناه فقط تبحثان عن نقطة تنتصبان عليه في كبرياء منفردة ص 48، بينما ” كل الوجوه مسدلة إلى القاع”.. ” يصاب بالدوار عندما يدلي برأسه فوق صدره كساكني الحي”… ” ويسقط على الإسفلت الملون بالخضوع والتوسل” ص48، ولأنه متفرد في كبريائه فقد أصبحت إزالة منزله- إزالته هو ذاته ضرورية إلى جانب كونها ممكنة وسهلة. إن الظلم هنا عام وشامل( كما أن القبح عام وشامل كما رأينا من قبل) إلى جانب قوته الساحقة حتى أنه يكاد يشبه كونيه لا راد لها( المطر الذي يذيب المنزل الطيني)، فلا تجدي أمامه مقاومة، فإما الخضوع وإلقاء الرأس فوق الصدر” ” كساكني الحي” وإما الفناء. إن هذه الفكرة لا تبوح بها القصة أو المجموعة بصورة مباشرة، ولكنها تضمنها وتبثها في طيات سطورها، وكأنها بذلك تحاول إعطاء مبرر لاستمرار وتواصل هذه القسوة، وكأنها أيضا تشير إلى طريق الخلاص من كل هذا البؤس المادي والروحي والأخلاقي.
إن الرؤية التي تطرحها هذه المجموعة للعالم قاتمة وسوداوية، وهي ليست مجاوزة للماثل والراهن، ولكنها على ذلك.. محتجة ملتاعة، رؤية بشر سحقهم الواقع، وأمعن في التمثيل بهم، فكتبوا بمعاناتهم وهزيمتهم شهادتهم على هذا العالم ورؤيتهم الضمنية للبديل. رؤية بشر عزل ضعفاء يواجهون آلة اجتماعية فائقة العنفوان تسحقهم بجلافة وفظاظة وبدائية. إلا أنهم لم يفقدوا رغم ذلك قدرتهم على التساؤل والاندهاش من كل ذلك على قدمه وشموله. فأكدوا كما قال برخت على أهمية ” ألا نعتبر البؤس طبيعيا حتى لا يستعصي على التغيير”. ” وقد لا يكون التغيير ماثلا في عبهم الفعلي”. إلا أنه يكل تأكيد يمثل ” وعيا ممكنا” على نحو من الأنحاء، ويندفع إثر كل تجربة نحو التحقق.
ولذلك فإن الشخصية التي تقدمها المجموعة ليست شخصية بطولية فهي لا تقاتل ثم تنهزم أو تنتصر، ولكنها رغم ذلك ليست عادية أيضا. إن البطل قد يكون باحثا عن عمل أو بائعاً للجرائد أو باحثا عن امرأة، إلا أنه في كل الأحوال بطل من نوع خاص يمتلك القدرة على التأمل والاستنتاج وأن يكبح الاستلاب من ذاته رغم عمايته وانهماكه الكامل في الحدث، إنه بطل يشعر بالإهانة ولا يتغاضى عن المنغصات كما أنه يحمي كبرياءه بصورة لافتة، وهو لذلك يعاني انفصالا من نوع ماعن الآخرين الذين هم دونه في الإحساس بوطأة ما هو ماثل، ولذلك فهو يعاني غربة مزدوج- غربة إزاء المؤسسات والسلطات، وغربة إزاء البشر الآخرين الذين لازالوا على بدائيتهم وتشيؤهم، ( راجع بطل ذلك وجهي) خاصة في مشهد الأتوبيس، وبطل “محدود الدم” ذي الكبرياء في عالم “مطأطئ الرءوس”… الخ … ومن ثم يسقط صريح موقفه المتميز هذا، دون أن يتمرد على نحو ايجابي لأنه لا يزال في همه الذاتي الذي يملأ عليه عالمه الداخلي.
إن أزمة الأبطال هنا تكمن في المنطقة الواقعة بين الرغبة والإمكانية. الرغبة في التحقق الذاتي (الذاتي أو الشعوري) وصعوبة تحقيق ذلك نتيجة لعدم مواتاة الظرف الواقعي، فتكون النهاية البائسة. إن أهم ما يلفت النظر أن التجربة التي يمر بها أبطال المجموعة غالبا ما تكون تجربة مصيريه أو فارقة تترك بصماتها حادة عليهم أو تنتهي بنهايتهم، فنشعر بوطأة الحدث وبجلال المعاناة، ولذلك فإن الحدث يأتي دائما طوليا سرديا ينتقل بالشخصية عبر مشاهدة متعددة تؤدي إلى إحداث التطور في الشخصية وفي إحساس المتلقي على حد سواء، على أن تصل إلى النقطة الفارقة، نقطة الذروة التي تحدد مصير الشخصية وتجربتها معا، ولذلك فإن القصة غالبا ما تبدأ بعبارات قصيرة موحية تقدم للحدث أو تطرح القضية، ثم يبدأ بعد ذلك الحدث الفعلي ممنتجاً ( مقطعا إلى مشاهد متتابعة ) مثل أن بقول:” هذا الليل الأحمق يجيئني كلما مل الضوء التحديق الغبي في وجهي – وتتأوه أمي المتعبة- تزوج يا ولدي فأني لهفى عليك” قصة الظل) حيث نفهم على الفور المجال الذي تدور فيه القصة ثم يبدأ بعد ذلك مباشرة الحدث الذي يأتي واقعيا على نحو كبير، ولكنه على ذلك يتوارى أحيانا خلف الرموز واللغة المختزلة الموحية التي قد تبدو لا معقولة أحيانا ولكننا نفهم من السياق أنها تحدث على صعيد الحلم, أو الخيال. إلى أن تأتي النهاية الهادئة المفتوحة أحيانا رغم سخونة الحدث في الأغلب مثل نهاية قصة ” ذلك وجهي” التي سبق الحديث عنها، فبعد هذا الحدث القوي الذي يمر به البطل (الرفض في المقابلة الشخصية ثم العودة الخائبة بعد استنفاذ كل محاولات العثور على صديق أو حتى وجه متعاطف) تأتي هذه النهاية المحايدة والموحية في نفس الوقت: ” أوزع رغوة الصابون على وجهي، فأرفع وجها حزينا إلى مرآة فوق المغسلة”. فعلى الرغم من روتينية عملية الغسيل تلك وعاديتها إلا أن حذف أداة التعريف من كلمة” وجها حزينا” وكلمة مرآة توحي بانتفاء خصوصية هذه الأشياء بالنسبة للبطلن وانفصاله عنها، بما يوحي بالحالة النفسية الخاصة التي أحدثتها التجربة.
أننا نلاحظ سببية واضحة في مجال تطور الحدث حيث يمكن تحديد عناصر حبكته إلى: بداية تشبه البرولوج تمتلئ بعبارات موحية تدخلنا في صميم الحالة- التجربة التي غالبا ما تكون مصيرية تأتي مقطعة عبر مشاهد متتابعة بشكل منطقي- نهاية هادئة، ولكنها تحمل دلالات موحية بقوة.
إن هذه التجربة قد لا تحتوي على أزمة صراعية واضحة أو حادة ولكنها أزمة البطل الخاصة وصيرورتها حسب منطق الرؤية التي يطرحها الكاتب لعالمه كما أوضحنا قبل قليل. فلا يوجد صراع بالمعنى المباشر للكلمة، بينما الصراع ضمني وغير مباشر، وإنما تحتل الساحة حال البطل المتحولة بفعل قوى تقف خارج الحدث أو تحتل ركنا صغيرا فيه، ولذلك فالأثر المباشر للحدث يتم على صعيد الحياة النفسية الخاصة للبطل، خاصة أن قصص المجموعة تستخدم غالبا ضمير المتكلم مما يعني سيطرة الصوت الواحد في غنائية مقترنة بالعالم الشعوري والنفسي الذاتي للمتحدث. ومن ثم كانت الصياغة اللغوية الخاصة التي يوردها الكاتب تتمتع بدور بالغ الأهمية في صبغ عالم المجموعة بهذه الصبغة، لقد جاءت اللغة شاعرية مقتصدة موحية، وقد أدت شاعريتها إلى بث روح غنائية مشبعة عاطفيا إلى حد بالغ مثل أن يقول في “محدود الدم”( التي هي من أجمل قصص المجموعة في رأينا): “جسد يحمل أوصاف الامتداد والتحول، في عينيه بريقا لم تشهده بيوتنا إلا في أساطير الغبار، تأتي مواويله الشجية في الأمسيات الصيفية المقمرة ” … الخ ص50 إلى جانب ذلك فقد شاب هذه اللغة بعض الإسراف في التأنق في بعض المواضع إلا أننا في النهاية لا يسعنا إلا أن نقول أننا نقف إزاء مجموعة قصصية فذة ليس على صعيد الطرح الواقعي لقضايا الإنسان وحسب ولكن أيضا على صعيد الاستخدام المتميز لجماليات القصة وأدواتها، وتوظيفها بشكل عضوي يضفي روحا ودلالات عميقة ونفاذة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلة ” أدب ونقد” العدد 75 نوفمبر 1991م.
** فصل في كتاب ” الذات والعالم” للدكتور صلاح السروي.
0 تعليق