أمجد ريان
يقترب الفن يوما بعد يوم نحو منطقة تتأكد فيها خصوصيته وفرادته كظاهرة أساسية عبر من خلالها الإنسان طوال التاريخ عن حلمه الدائم لتخطي عقبات الحياة.
إن تأكيد خصوصيته الفن، هو تأكيد للظاهرة، وفهم راق إلى كيفية تكونها، وطبيعتها، وماهيتها، وكيفية أدائها لدورها المعرفي بين مختلف الظواهر الأخرى، كما أن تأكيد هذه الخصوصية لا يلغي اتصال ظاهرة الفن بكافة الظواهر الأخرى، وبالواقع الاجتماعي الذي يشملها جميعا، وبالكفاح الإنساني في طريق التطور.
ونستطيع أيضا أن نتتبع تجلي هذه الخصوصية في كافة أنواع الفن، أدبا، وفنونا صوتية وبصرية كالموسيقى والفن التشكيلي وفنونا حركية كالرقص، وغيرها، ترتبط جميعا بمنطق جمالي، وبمجموعة من القوانين الأساسية التي لا تلغي التنوع والتكامل. وبمتابعة الفن الأدبي الذي يستخدم اللغة. فنحن سنكون بإزاء مشكلة عويصة صاحبت الفنون الأدبية طويلا، وهي أن اللغة أداة اتصال الطبيعية، وتوصيل الأفكار، بينما الفن لا يوصل الأفكار بقدر ما يصنع حالة إبداعية. ومن هنا تحدث المفارقة التي توقع الكثير من النقاد في خطأ جسيم هو الخلط البين بين لغة الحياة اليومية ولغة الفن الأدبي، فيبحثون في لغة الأدب، بنفس الطريقة التي يبحثون بها اللغة الطبيعية، لغة الكلام العادي.
بعد هذه التفرقة الأولى بين اللغتين ينبغي أن ننتبه إلى مزيد من الخصوصية داخل أشكال الأدب: شعرا، وقصة، ونثرا، ولغة مسرحية الخ…
كيف تستطيع القصة القصيرة بعد ذلك أن تقوم بعدة أدوار متداخلة، فتعبر عن حلم إنساني شامل، وعن واقع اجتماعي يسير في طريق جديد، وكيف يصاغ هذا من داخل ظاهرة الفن النوعية، وكيف أنها فن أدبي، وكيف تؤكد القوانين الداخلية لفن القصة، لغة وبناء، تلك هي قضية النقد الأدبي فيما يخص فن القصة القصيرة التي قطعت شوطا ليس بالقصير في حياتنا الأدبية العربية.
يوسف المحيميد فنان موهوب يسير نحو هدفه الإبداعي بإصرار وتواضع، يعرف مسار القصة العربية، ومساهمة القصة السعودية فيها ويعمل بشكل دؤوب على مواصلة عمله بتؤدة وقدرة حقيقية، تسعفه ثقافته وأدواته الفنية في حين، وتعرفه بعض المشكلات في حين آخر، ولكنه لا يكف عن المحاولة الصبورة، شأنه شأن كل كاتب أصيل.
تؤكد مجموعته ” ظهيرة لا مشاة لها” رؤية تعالج واقعا عميقا وتقترب من تفاصيل الحياة البسيطة الصغيرة فتتأملها وتسير غورها، وتفكر كثيرا كيف تنقلها من حدها كواقع واقعي إلى منطقة الفن القصصي بخصوصيتها ووهجها الحميم. الطفولة وما تعانيه في الواقع العربي هي معطى من معطيات الكاتب الأثيرة. فالطفل بائع الصحف الفقير يسير في الشوارع غير قادر على فهم نفسه وعلى فهم الآخرين، ليس مسموحا له بأن يتكلم أو يجري حوارا، لأنه أقل من أن يحق له ذلك: ” تحركت الشفاه الغليظة بصوت تغالبه بحة:
– حين نسألك تجيب فقط – ص15.
لا تتوقد عاطفة الطفل، ولا يحاور نفسه في أمور العاطفة إلا منعزلا بعيدا، في سطح البيت، أو في الحمام ” !!! ” ولا ينطق شيء حميم من داخل الأعماق الإنسانية، بل يمارس الحياة مثلما يراها تمارس” وفي مساحة من السطح نفعل مثلما كانوا يفعلون. – ص25 “
هو طفل متسكع يقف دائما خارج أبواب المطاعم والمحال متسولا لا يحق له أن يشهد التلفاز ” ص32″، طفل مندهش يتلقى في كل لحظة مل لا يتوقع، يمشي محملقا في كل شيء حوله من بشر، وسيارات مسرعة لا تبالي به، مثل الحياة المسرعة التي تسير دون أن تبالي به، يخاف دائما من الآخرين ضرب الرجال من جهة، واعتداء النساء بالضرب والشتيمة ” ص41″ أو بالتجاهل الشديد وإحساس داخلي بأنه متهم دائما يتطلع الآخرون له بشكل مريب، فينزوي داخل كبينة الهاتف، وبطلب شخصا فيعتذر عن استضافته ” ص41″.
إن شيئا من مفارقات الحياة يحيط بالبطل دائما، يحس بغربة، بشوارع تترشق فيها أعمدة لإشارات المرور التي لا تتيح للسائقين العبور إلا لتحظره عليهم مرة أخرى، وكل شيء هاجع ورتيب ” ص21″ إنه يفتقد المعنى، والحياة خطر دائم في كل لحظة يتوقع أن تصدمه سيارة، أو أنها تكاد أن تصدمه، فيضع قدمه على:” الإسفلت، لتفرمل سيارة، ويفتح صاحبها نافذته:” يا كلب” – ص41″.
ويمعن الكاتب في وصف دورة المياه بشكل تفصيلي دقيق يقول” مغسلة تستند على الجدار بعنق مغروس في الأرض، وصنبور نحاسي تآكل طرفه، مقعد مجوف للداخل به فوهة تحترق غلاف الأرض الخارجي- ص21″.
.. يشعر البطل دائما بأن غبارا يحيط بجسده، ويغطي وجهه، فيمسك بالصابونة، ويظل يفركها بين يديه ويظل يوزع رغوتها على وجهه ” ص42″ ويمعن في النظر في المرآة، ليرى وجهه وكأنه يتأكد من وجوده ذاته ” ص42″ بل وينزع منديله ليمسح به سطح المرآة جيدا، لكي يستطيع أن يرى ملامح وجهه ” ص36″ إن إحساسا بالملل يدفع البطل إلى أن يسير في الشوارع بلا هدف، كأن الشوارع بيته، بكل تفاصيلها الرتيبة، يعد أعمدة الكهرباء الخشبية بصوت مثقل بالنعاس، أو يمسك بأي حجر لكي يهشم به علبة فارغة ملقاة ” ص28″- ص29″، الشوارع مغطاة بإسفلت يشوي الأقدام الصغيرة، وهي أقدام صغيرة حقا لأنها أقدام أطفال لا حول لهم ولا قوة في حياة عاتبة.
يحس بالبطل أن كذبة ما تطارده باستمرار، ويصبح الحس عنده قابلا للاستيقاظ في كل لحظة لأنه يمثل إحدى وسائل البطل في تحسس الأشياء، يصبح البدن بكل خرائطه وأحاسيس أعضائه محورا أساسيا من محاور الكتابة عند المحيميد، فيصف الوجه والخد والعين ويصف الجسد والعرق والشفاه والقدم، ويصف كيف” يلحس” وعاء اللبن الطازج، وكيف تؤذي أذنيه أصوات العربات المسرعة إلى لا اتجاه.
ولكن المحيميد أيضا بما يملك من عطاء الفنان، يسبغ على الوجود حسا إنسانيا، والبطل رغم هزائمه محب للحياة وللبشر، مصر على الاستمرار، ونحس فيه صبرا، والقا إنسانيا جديدا، يضحك من قلبه، يستشعر دفء يد مرة، ويحمل قلمه في جيبه ليكون على أهبة الاستعداد لفعل الكتابة، ويسطر بعض الكلمات ” جسد يحمل أوصاف الامتداد والتحول، في عينيه بريق لم تشهده من بيوتنا إلا في أساطير الغبار، تأتي مواويله الشجية في الأمسيات الصيفية المقمرة- ص50″.
نستطيع بتأمل الكتاب أن نتخيل قسمين كبيرين، من حيث الرؤية الإبداعية وبالتالي من حيث الأدوات التي تفاعلت لصنع هذه الرواية. القسم الأول يشمل المجموعة الأولى من القصص بداية بقصة ” الظل” حتى قصة ” ذلك وجهي” والقسم الثاني يشمل القصص الثلاث الأخيرة ” محدود الدم”، ” سيدة الأسماء”،” ترنيمة لفاصلة الأبيض”.
في القسم الأول نتعرف على القصة البسيطة، التي تستخدم أدوات بسيطة مكرسة كلها لخدمة فكرة محددة تكاد أن تكون مرسومة ذهنيا على الأقل قبل الكتابة، فقصة الظل على سبيل المثال تحكي قلق الإنسان المغترب الذي يزدوج بين ذاته وذات الصديق الذي هو صورة أخرى من هذه الذات، ثم تدفن الشخصيتان في معنى الظل الذي هو أقرب صديق تعرفه الذات، حيث يمثل الظل محض صورة مليئة بالمعنى السلبية والهشاشة للبدن المليء برهج للحياة وعنفوانها، وقصة الجريدة مكرسة لتقديم شريحة من حياة طفل فقير بائع للصحف ذي وجود هامشي في واقع لا يحس بوجوده وآدميته، وقصة ” الحمام” تقدم قلق الذات وإحساس البطل بحالة الاتساخ التي تحاصره وهو ليس اتساخ القذارة بقدر ما هو اتساخ للذات نفسها، وقصة ” التراب” تقدم لحظة لطفل صغير أيضا تلميذ فقير يتحسس مناطق العاطفة الجريحة في قلبه وقصة ” البرتقالة” تعكس معاناة الذات في عالم البرودة والجمود، وقصة ” ذلك وجهي” تعكس قلق البطل وحيرته في عالم معدني زجاجي ونلاحظ أن اللغة في هذا القسم من الكتاب، تتكئ إلى جانبها الدلالي فقط دون قدرة على إيجاد أشكال من التكثيف أو التركيب، لأنها منساقة لطبيعة الرؤية، لغة توصيلية قاموسية محدودة الدور، ونحس بالجانب الغنائي الأحادي المنصب على إبراز معنى بعينيه، ونلاحظ التفاوت في القيمة الفنية من قصة إلى أخرى.
أما في القسم الثاني من الكتاب فنحن إزاء رؤية مختلفة، رؤية تتعانق محاور عديدة لصنعها، ونلاحظ مهارة الكاتب في تشكيل معطياته، وإجراء الحوار بينها لتتفاعل بشكل ثري، ونلاحظ أن اللغة هنا متعددة الدلالة، يصل التركيب في بعضها إلى حد التكتيف الشعري.” ينتعل قدمين من قصب، ويظل يمشي، ويجلس بالدوار، وكل الوجوه مسدلة إلى القاع، يصاب بالدوار عندما يدلي برأسه فوق صدره كساكني الحي ينشف دمه داخل جسده، يدور حول نفسه، ويهتز- ص48″.
ونلاحظ أن الكاتب هنا قد صنع قصته من خلال تشكيل بنيوي خاص متعدد المعطيات، يعتمد التقسيم، والحوار بين تلك المعطيات ففي قصة ” محدود الدم” يقسم الكاتب قصته إلى مقدمة صغيرة ثم أربعة أقسام هي” محدود/ فجر الأمس/ محدود/ ظهر الأس / محدود / ليلة الأمس / محدود/ فجر اليوم” بحيث تندرج الأقسام في تراص يوحي بيوم كامل، له طبيعته الخاصة من جهة، وقيمته كرمز لمرور الحياة كلها من جهة أخرى.
أما قصة ” سيدة الأسماء” فقد تم التقسيم فيها أيضا، تحت عناوين جانبية هي ” العراف – الدخان – الهاجس – الصديق – الحلم” ونلاحظ في هذه العناوين تعمد انتقال الكاتب من العام إلى الخاص، كما لو كانت تجربة الوجود لا يمكن أن تسكته إلا من خلال الانتقال التدريجي من المعنى الكبير إلى أخص خصوصيات الذات الإنسانية، حتى تكتسب الخبرة التي تسمح برحلة العودة من جديد إلى ذلك الوجود، أما قصة ” ترنيمة لفاصلة الأبيض” فقد تعتمد الكاتب أن يجري فيها حوارا بين مستويين من الرؤيا ميزهما بطريقة بصرية بتغيير حرف الطباعة نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
– مجلة الجيل – العدد 120.
0 تعليق