د. محمد صالح الشنطي
لا مفر –ونحن نلتمس مدخلاً للولوج إلى عالم المحيميد القصصي في مجموعة “ظهيرة لا مشاة لها” من التعرف على ما يثيره العنوان من دلالات، فإسناد النفي للمنفي في وجهيه المعنوي واللفظي يقدح زناد الدلالة، ويشكل صدمة للمتلقي تستوقفه وتستفتيه، فالظهيرة –في حد ذاتها- نفي للظل، والكاتب يستخدمها بهذه المثابة، وهي ذات دلالة مفارقة: ضوء غامر وشمس حارقة “ولا مشاة لها” تأكيد لجوهر النفي فيها، فمن المعروف أن الظهيرة تنفي وجود المشاة، فلا أحد يجازف بالمشي في غمرة
هذه المعاناة، والكاتب إذ يعبر بالظهيرة عن تكاثف الأزمة وانعدم الفعل الإنساني يستحضر أجواء القهر الذي يترك الإنسان وحيداً أمام مصيره.
إن عناصر التجربة الإنسانية في المجموعة تضعنا وجهاً لوجه أمام جملة م العطيات تتعلق بجوهر الموقف الجمالي والفكري، وهذه المعطيات تتمثل في أن هناك مناخاً عاماً يسيطر على الإبداع القصصي لدى العديد من أبناء جيل الثمانينيات والتسعينيات الميلادية من كتاب القصة لا يستطيع منه فكاكاً، ولا عنه انصرافاً، ويتمثل في هذه الأجواء البائسة القاتمة التي تتكاثف في شكل ظلمات بعضها فوق بعض، تزداد مع كل قصة تراكماً في غير تنوع ولا اختراق لمسارب جديدة، وكأننا أمام جدار مصمت يحول بيننا وبين رؤية الواقع. ثمة قواقع مقفلة، ونمطية في الخطاب السردي وفي التجريد والإيغال في فضاءات هلامية لا ملامح لها، إن حرية التشكل حق مشروع ولكن الجمود على عناصر معينة للتجربة ومنحى ثابت للصياغة –وهو ما سنجد الكاتب يتجاوزه فيما بعد- ربما كان من آثار البدايات، ومع هذا فقد نجح الكاتب في إحداث بعض الثقوب في هذا الجدار المصمت، ولكنه لم ينج من تأثير وسلطان القاموس الذي كان سائداً عندما صدرت مجموعته هذه، إن المتلقي يحس بأنه مغلول إلى بعض الرواسم والرؤى والتجريب السابح في ذل النسيج اللغوي الهلامي.
ولعل من أهم السمات التي تميز “ظهيرة لا مشاة لها” الإيجاز والتكثيف اللذين لازماه فيما بعد فهي قصص قصيرة جداً، حتى عنوانيها لا يزيد العنوان فيها على كلمة واحدة في الخمس الأولى، وعلى كلمتين في الثلاث التالية أما الأخيرة فقد جاءت في كلمات ثلاث، وهذا مؤشر دلالي له أهميته.
وثمة ظاهرة مشتركة بين قصص المجموعة حيث اختار الكاتب أن تروى جميعاً بلسان المتكلم، فموقع السارد يتحدد من وجهة نظر ذاتية محضة، لذا تميز السرد بكونه انفعالياً يناسب مناخ الأزمة التي تخيم على التجربة.
كذلك فإن اللافت للانتباه –في هذه المجموعة- ابتداء أغلب قصصها بالجمل الاسمية الوصفية، منهنا جاء الوقف النفسي العام قاتماً يكرس الأجواء المأزومة:
“هذا الليل الأحمق يجيئني كلما مل الضوء التحديق الغبي من وجهي” ثم “الشارع الطويل.. السيارات قليلة وتجتمع عند الإشارة” ثم “رائحة العرق تلف الأنوف.. الرؤوس الصغيرة تحاصر” ثم “صباح رطب. جسدي الصغير يتكوم على فراش قطن رائحته عرق وبول “ثم الليل أسود، والتفاصيل سوداء وجوه تلمع في الظلام”.
هذه نماذج لبدايات خمس قصص من تسع في المجموعة، تبدأ بهذه البدايات القاتمة متكئة على معجم تنحصر دائرته الدلالية في الظلام والسكون القاتل ، والرائحة التي تزكم الأنوف والأجواء الرطبة اللزجة، ولو استعرضنا خواتيمها لوجدنا تنتهي –في الغالب- بأجواء مشابهة تتراوح بين الخيبة والسكون والإحساس بالحزن أو الفشل.
ومن الظواهر المشتركة –أيضاً- وجود الطفولة كمحور للعديد منها، وهي طفولة معذبة قاسية، فالطفل إما بائع جرائد يركض لاهثاً نحو السيارات، أو يحمل بيده الصغيرة المرتعشة دلة القهوة ويطوف بها على الحضور، تحاصره النظرات ويطوح به الإحساس بالخوف أو يمضي وحنجرته تجف، وصرير مدوٍ يودعه فيهرول، ونشيج في داخله يشتد ويحتدم كما في قصة (الجريدة)، أو فتى مطارد يتعرض للركل بينما يمسك بطرف ثوبه ويركض بشدة في قصة (الحمام)، أو تلميذ تتساقط من حقيبته كراريس مرهقة، كما في قصة “التراب” أو طفل فقير جائع قذر تتوزع بقع الشاي على ثوبه تشوي أقدامه حرارة الإسفلت يمسك ببرتقالة يابسة في قصة (البرتقالة). وكما يتضح فإن الطفولة التي يصورها الكاتب ف يقصصه بطولة مقموعة منتهكة بكل أنواع الشقاء والاضطهاد.
ثمة إيماءات متعددة إلى الجنس في المجموعة موظفة في رسم ملامح اجتماعية أو نفسية: “سالم ينفخ دخان سيجارته بكثافة ليتصاعد من حوله، ويطالع في وجوه داخل سيارات تقف عند الإشارة أو في التفات امرأة.. تنشر غسيلها في شرفة شقة عالية” ص14.
أو ليوحي بالأزمة في تكاتفها وضغطها وحصارها، وهي أزمة حسية ذات طابع شهواني: “الأذرع الملساء تتشابك في صراع للوصول إلى أنف البائع الشبق الذي يضغط على الأكف الصغيرة حين يتناول النقود ومن صدره تفوح زفرة جائعة” ص18.
وفي قصة ثالثة تبدو الإشارة كما لو كانت تعبيراً عن استغلال البراءة في ذلك الاتجاه المحموم: الطفولة: “أدفعها نحو الجدار بلذة ليثيرنا صراخ قطتها السوداء الذي ينبئ بألم لذيذ، نرقبهما على هامة الجدار أحدهما يتشبث بالآخر بجنون وفي مساحة من السطح نفعل مثلما كانوا يفعلون” ص25.
وفي موقع رابع يبدو الحديث عن هذا الموضوع وكأنه تقرير لوضعية نفسية وحسية تنبئ عن إحساس بالتجربة في مثولها المادي وكثافتها الضاغطة “يبدو أن كل شيء خامد. واقترب بوجهي المحتقن بالارتواء من الموقد، وقبل أن أنفخ فيه التفت إلى جسد “هيا” الغارق في نوم بنكهة الشتاء… الخ” ص57.
ومن الظواهر الأسلوبية شيوع المقاطع الحوارية القصيرة المنكرة الأطراف في الغالب حيث تقوم بمهمة الكشف عن بواطن الأزمة التي تعيشها الشخصية أو تصور مآزقها الاجتماعية.
ويعمد الكاتب إلى توظيف المشهد، وهو ليس لوحة واقعية في كل الأحيان، بل يقوم على الإضاءة المتبادلة بين الداخل والخارج، وينسحب تدريجياً من تعيناته الماثلة ليتحول إلى صورة تعبيرية تضطرب فيها النسب اضطراباً بيناً، فتتحول إلى عملية استبطان منظم للتضاريس النفسية والفكرية الداخلية، وتقوم الذاكرة بدور رئيس في تحريض الخيال غير أنه يظل ممسكاً بناصية التجربة في مثولها العياني، كما أن الدور الواعي للرقابة العقلية يلازم التداعيات المنضبطة للفكر ويحكم إيقاعها، ففي قصته الظل –مثلاً- يتحدث عن صديقه الذي درس معه في الابتدائية، ويصف مقابلته له وصفاً يكشف عن دواخله (هو) وكأنه مرآة عاكسة تبرز ملامحه الداخلية، ووضعه النفسي، ثم لا يلبث أن يغوص في سبحات عقلية تأملية تلامس تخوم الفانتازيا، فهو يحدق في ملامحه الممزقة في حين يمتد ظله المثير دون أن تطاله يده، ثم يقول “الظل هو صديقي، ولكن الجمجمة ذات شكل مختلف جداً، مما جعلني أغوص في تفاصيلها” ص7.
ويعود بعد ذلك إلى الوصف الحسي الواقعي الذي يزخر بالنعوت فيه ظلال وإيحاءات دالة تحلق إلى آفاق الاستشراق المقصود للعوالم الداخلية، وتتبدى سلطة الوعي في تلك التعليقات التي تتخذ طابع التحليل.
والكاتب يعمد إلى إثارة الأسئلة عبر جملة من الظواهر الأسلوبية والنصية، فمثلاً حين يتحدث عن الظل ويحتشد لتكثيف الدلالة لا يتعجل الإبانة عن الجوهر بل يتركه دالاً معلقاً في فضاء الاحتمال، ويتركنا أمام جملة من المعادلات التي تفرزها الأسئلة التالية:
ماذا يعني البحث عن الظل؟. افتقاده أولاً ثم العثور عليه ملازماً للغير ثم تحوله بحيث يلازم الراوي في القصة إلى نهايتها؟ فالظل هنا بؤرة دلالية لها علاقة بالأزمة التي فجرها الكاتب منذ البداية، فنحن أمام حقل دلالي متسع تتصادم فيه الأضداد: الليل –الضوء، الظل-الاحتراق.
الظل يشتبك مع الليل، والضوء يلامس الاحتراق، والمحور الأساسي هو الشخصية الإنسانية المأزومة الباحثة عن هويتها، وهذه الهوية المجهولة غير محددة، هل للظل علاقة بالزوجة التي يدور الحوار حولها في أول القصة؟ أم له علاقة بالمعرفة؟ وأي ضرب من ضروب المعرفة؟ أم هو إبحار الذات المأزومة. هذا الحشد الإنساني ممثلاً في الأم والأخ والصديق والزوجة.
ثم هذه الدوال: الظل والاحتراق والغيمة والضوء ما دلالاتها؟
فلنعد إلى خاتمة القصة: وشعرت بالشوق والرطوبة واللذة والرعشة والنوم.. نمت حين استأذنني الظل بلطف بعد أن خمد الضوء.
لماذا انتهت القصة في محطتها الأخيرة في غرفة النوم؟ ثم لماذا كانت نهاية القصة مشحونة بهذه الأجواء الشبقية المكشوفة؟ ثم أليست الحوارات الداخلية في القصة موضوعها الزواج في الدرجة الأولى؟.
لعلنا نقترب من الصواب إذا قلنا: إن الكاتب يصدر عن فلسفة شخصية للزواج فتعمقها ليحلق بها إلى آماد بعيدة تلامس جوهر الكينونة الإنسانية في تجلياتها الذاتية.
ولكن هل استطاع الكاتب أن يفضي برؤيا محددة من خلال هذه المحاولة المضيئة التي تجعل من ذهن المتلقي حفلاً لتجربة يؤوب منها مكدوداً؟
كثيرون هم الذين يعيشون بلا ظل على الرغم من الضوء الباهر الذي يغمر خطاهم، وقليلون هم أولئك الذين يلازمهم الظل حتى في الظلام فيتطاول وتضخم ويلقي بأفيائه الممتدة على كل شيء.
والكاتب يتخذ من التفاصيل الصغيرة والمشاهد البائسة البسيطة التي تتداخل في نسيج واحد عبر منحى سردي متسلسل تتوازى في المشاهد المواقف مادة لقصصه، ولكن جل اهتمامه يظل منصباً على العنصر البشري في التحامه بالمكان، بل أنه يستغل الساحة المكانية متعاضداً مع الأجواء والمناخات في الكشف عن حقيقة الموقف الإنساني والاجتماعي في القصة، بل إنه يتعامل مع الأمكنة وكأنها كائنات حية وعنصر من عناصر التجربة يتفاعل وينفعل، ففي قصة “الجريدة” الشارع الطويل يغفو ورائحة الظهيرة تغسل الوجه، والمجلس يزدحم بالوجوه والمقابلة التي تتخذ إطار التوازي والتداخل هي سيدة الموقف، وهي مقابلة تتم في مستويات متعددة، فالراوي الطفل الذي ينصهر في أتون الظهيرة يقابله سالم اليماني الذي يسعل بشدة ثم يقوم –بدوره- بممارسة القهر على الطفل، والأقدام المرتعشة الراكضة بحثاً عن مشتر للجرائد في مقابل السيارة الفارهة، والحنجرة الجافة الملتهبة تقابلها تلك الضحكة المجلجلة، فالقهر والإحباط هما المحصلة النهائية.
“رذاذ بصقة على وجهي وضحكة مجلجلة أسمع آخرها صريراً مدوياً يودعني.. أهرول، نشيج في داخلي، ورجلاي تتركان الرصيف” ص15.
وحين يغيب الحوار يحل محله حوار من طرف واحد ومن نوع آخر.
الاحتراق وهو نقيض الظل يوحي باستمرار التجربة في المجموعة، فالطفل الراوي يحترق بالشمس، وسالم اليماني يحترق بسجائره وتطلعاته، وهنا يختفي الظل بأفيائه، ويترك الوجوه مكشوفة لضراوة اللهيب، يتمتع الكاتب في المجموعة بحاسة وصفية مرهفة، فهو يحتار الجزيئات بعناية، ويوغل في تتبعه للتفاصيل بعد أن يحصرها في مجرى ضيق يمكنه من التكثيف فلا يضل أو يضيع في غمرة الموجات المتكاثرة من الجزيئات. وهو يكشف عن طاقة على الاحتشاد والتكثيف وتطوير الموقف وتنميته والسيطرة عليه، وهو في ذلك كله يمسك بناصية الجملة الاسمية والجمل الفعلية المضارعة.. مما يوحي بالثبات والاستمرار والتدفق.
والمقابلة ثم الانتقال من النقيض إلى النقيض من السمات البارزة سواء في التكوينات الحدثية أو النماذج الإنسانية، وغالباً ما يكون ذلك مصحوباً برؤية اجتماعية فاقعة، ففي قصة “البرتقالة” هناك الحي الطيني والحي الأسمنتي، والانتقال ما بينهما بكشف عن نماذج بشرية متباينة في أنماط عيشها، الحرمان والشقاء في مقابل الوفرة والثراء والسعادة، ويتعمق الإحساس بذلك لأن الكاتب يختار الطفولة البريئة ليلتقط عبرها الذبذبات النفسية الناجمة عن هذه الوضعية، ولكن السياق الذي يقدم عبره الكاتب هذه الموجات الداخلية وهو التدفق في مجرى الوعي والذاكرة اللذين ينسابان بلا أطر أو حواجز أو تقنين سردي يفك عن القصة أغلال الرؤية المسبقة ذات الطابع الدوجمائي المحكم، كذلك فإن الملامح الشعرية التي تنفرج عنها الصياغات اللغوية في تحررها من أغلال التأطير والإحكام والضبط، حيث يلجأ الكاتب إلى استخدام البعد الأدائي للكلام المنطوق، وما ينجم عنه من تقطيع ولعثمة واستطراد فضلاً عن الحوار العارض.
ويواظب الكاتب على الوصف التراكمي الطابع حيث يحتفل بالهامش من التفاصيل ويستقصي الجزيئات في إبراز ما ينوء به الداخل من أثقال، وتبدو تقنية الوصف ذات أبعاد مدروسة بعناية، ففي الوقت الذي تتضح فيه الأشياء بالتضاريس النفسية المغمورة تحت موجات متلاحقة من التوتر تبدو عملية الوصف محايدة يكسر حيادها عنصر جديد مفاجئ يعبئ المشهد بسخرية خفية لا يدركها إلا من قرأ خلفيات المشهد النفسية:
“افتح الصفحة الرابعة لأطالع الإعلان الصغير، زهو يخالجني أتحسس على أثره وجهي وشاربي، أقف وأرفع شماغي وعقالي من هامة المشجب..الخ. فالعنصر المفاجئ الذي يخترق المشهد قول الكاتب “وهذا الغبار الكثيف يعوق ذلك”. ويتكئ الكاتب على عنصر الإيقاع الناجم عن الرصد البطيء الذي يتوقف عند أدق الحرمات مما يكثف الإحساس بالموقف.
الهوامش:
(1)صدرت هذه المجموعة القصيرة للمؤلف في الرياض، 1989م.
* الدراسة فصل من كتاب “”آفاق الرؤيا وجماليات التشكيل” محمد صالح الشنطي
0 تعليق