ظهيرة لا مشاة لها: الظل

مايو 27, 2012 | ظهيرة لا مشاة لها | 0 تعليقات

هذا الليل الأحمق يجيئني كلما ملّ الضوء التحديق الغبي في وجهي ،وتتأوه أمي المتعبة:
– تزوج يا ولدي، فاني لهفى على ذلك.
***
قال الآخر: لِمَ أنت قلق وحزين؟. قلت:
– الليل يملني كثيرا.
– دعه يبتعد عنك قليلا. في دهشة واستجداء:
– كيف؟.
– لم لا تمشي على الأرصفة ظهراً، حتى يمنحك الضوء ظلك. تساءلت في سذاجة:
– وهل تعتقد أنه يلازمني؟.

– لاشك في ذلك. شكرت الآخر بعمق، وابتعدت.
في الصباح الباكر كنت كغيري أنتعل الأرصفة الرمادية، والضوء تلغيه عن جسدي غيمة مشاغبة. كل الذين أقابلهم يسيرون بأظلتهم معهم.. صادفت صديقي الذي درس معي الابتدائية – حيث كان يجلس في الصف الأمامي من الفصل بكل أدب وبلاهة ـ وقف أمامي. حدق في ملامحي الممزقة، وصافحني بحرارة، في حين كان ظله المثير يمتد على الرصيف دون أن تمتد يده نحوي. الظل هو صديقي، ولكن الجمجمة ذات شكل مختلف جدا، مما جعلني أغوص في تفاصيلها: أعين ساهمة، شعر مرتفع من الأمام، وينساب بنعومة إلى الخلف. شفاه تتلهف بضراوة، وأشياء كثيرة تقتلني بهدوء.
– أرجو أن تقبل دعوتي. سرتُ مع صديقي، حيث كان يتوسط بيني وبين الظل. دخلنا، وجلسنا على كرسيين مربعين، واختفى ظله بعد الدخول.
– هل تزوجت يا صديقي؟.
قلت في تثاؤب:
– لا، ولكن أفكر الآن. ثم أضفت، وقد افتعلت حيوية مؤقتة:
– ولكن ما رأيك أنت؟.
– أعتقد أنك سوف تشعر بسعادة كبيرة. قال فابتسمت!.
أراد صديقي أن يستأذنني لانشغاله بعمل ما، و خرجت أيضاً معه. في الشارع وقف يودعني، وأثارني جداً أنه يقف بدون ظل مع أن الضوء المحرق يحتويه. مشى بعيداً، وجعلت أشاهد منزله من الخارج، وحين استدرت لبدء طريقي أدهشني أني أمشي للمرة الأولى في حياتي بظل أطول بكثير من قامتي، وله جمجمة تختلف عن جمجمتي الصغيرة. باختصار كان ذلك الظل يشبه كثيراً ظل صديقي بل هو نفسه. حاولت أن أتخلص منه، وكان يلتصق بجسدي النحيل كثيرا، دخلت في طرق ملتوية وأرصفة لا تنتهي لعله يفقدني، وهو يتشبث بقدمي ويمتد بأغراء موجع على الرصيف الرمادي. أمشي، ويمشي الظل معي. أقف ويقف أيضا معي، ويزعجني أني أمد يدي إلى أنفي وأحكه، ولكن يد الظل لا تفعل ذلك. أدخل منزلي المظلم، وأعبر السرداب الضيق، وحين دخلت غرفتي أغلقت الباب خلفي، خلعت ملابسي وهو يخلع مثلي. ارتميت على السرير العفن، وكان يرتمي معي بنفس اللحظة، ولكن ساقاه ممدودتان للسقف.
،، وشعرت بالشوق والرطوبة واللذة والرعشة والنوم.. نمت حين استأذنني الظل بلطف بعد أن خمد الضوء.
سبتمبر 1987م

الجريدة

الشارع طويل، ويغفو. السيارات قليلة، وتتجمع عند الإشارة. ثلاثة ريالات مطوية في راحتي الرطبة، ورائحة الظهيرة تغسل وجهي. ” سالم” اليماني يرتب الجرائد الصباح. في دكانه الصغير أمد يدي: ست جرائد لو سمحت.
* *
– جريدة يا ولد.
أركض نحو سيارة بجوانب مهشمة. عرق موزع على جبين السائق الذي تستطيل رقبته من النافذة، ليستدير وجهه نحو صبي في طرف صندوق السيارة الخلفي:
– انظر! كيف يلقى أولاد الناس أرزاقهم!.
– يا ولد العجوز. أضاف حين أدخل رأسه في مقصورة السيارة وقد التفت نحو امرأة بجانبه تلتحف عباءة سوداء. أناوله الجريدة، وهمهمة المرأة خفيضة، وخائفة. كم ترتعش يدي الصغيرة لثقل ما تحمله من دلة مملوءة بالقهوة المّرة، والمجلس يزدحم بوجوه تفوح منها روائح البخور، لينتشي أبي حين يرخي لسانه:
– امسك الدلة جيداً، يا ولد العجوز.
* *
“سالم” اليماني يسعل بشدة، وهو يسحب كرسياً خشبياً من داخل دكانه الصغير، ليجلس على الرصيف. يتناول من جيبه علبة سجائر حمراء، يخرج سيجارة، ويضعها بين شفتيه اليابستين. يشعل ثقاباً بيده الضخمة التي لكمت ذات مرة ظهري الصغير، وعصرت شحمة أذني بقوة، لتخرجني من دكانه بسبب بقائي دون أن أبتاع شيئا:
– إذا أردت شيئاً، أطلبه وأنت تقف عند باب الدكان.
– حاضر. أريد قلم رصاص بممحاة.
– هات إذن.
– ماذا؟.
– يا سلام! يعني تأخذ قلم رصاص بالمجان؟ هكذا!. “قالها وهو ينفض يديه في وجهي”.
“سالم” ينفخ دخان سيجارته بكثافة، ليتصاعد من حوله، ويطالع في وجوه داخل سيارات تقف عند الإشارة. أو في اكتناز امرأة مصرية تنشر غسيلها من شرفة شقة عالية.
* *
الجرائد تتناقص من على ذراعي، والحرارة تحرق هامتي العارية. هناك مشاة على الأرصفة بدءوا يفيقون من نومهم. يدخلون الدكاكين المنتشرة على جانبي الشارع، يأخذون حاجاتهم، ثم يتفرقون بين مداخل العمارات.
* *
” سالم” اليماني يحرق سجائره، ليفتح علبة جديدة، وعيناه مصوبتان نحو شرفة شقة عالية.
* *
يدٌ تؤشر نحوي داخل سيارة سوداء رياضية. أركض في مساحات الإسفلت الفارغة بين السيارات. أقف أمامه. يفتح زجاج نافذته شابٌ أخضرّ شاربه. وبجانبه آخر في خديه نمشٌ خفيف، وله شفاه غليظة. الجريدة الأخيرة في يدي يتناولها:
– كم حق الجريدة؟.
* ريال واحد فقط.
ـ هذا كثير.
يهمسان بينهما، ويبتسمان بأعين غامضة:
– ما أسمك يا شاطر؟.
* لماذا؟ تحركت الشفاه الغليظة بصوت يغالبه بحة:
– حين نسألك تجيب فقط. وجهي ليس هو. وأقدامي ترتعش حتى كأن الشارع يخلو من عابريه، وعيناي تبحثان فرصة سريعة للركض. يدا السائق الشاب تجسان جيبه:
– معك صرف عشرة ريالات؟.
حنجرتي تجف، أحدّق، وضوء الإشارة يتيح العبور. رذاذ بصقة على وجهي، وضحكة مجلجلة أسمع آخرها. صرير مدو يودعني. أهرول. نشيج في داخلي، ورجلاي تتركان الرصيف.
يوليو 1988

الحمّام

رائحة العرق تلف الأنوف. أقفية الرؤوس الصغيرة تحاصر الفتحة الضيقة في جدار الأسمنت المقابل. الأذرع الملساء تتشابك في صراع للوصول إلى أنف البائع الشبق الذي يضغط على الأكف الصغيرة حين يتناول النقود، ومن صدره تفوح زفرة جائعة. أدخل رأسي المنفوش وسط الزحام. يفصلني عن النافذة الفتى الأبيض الرقيق، الذي توقف بسببه بيع الفطائر، فالبائع المتهدل الشوارب يمازحه، ويحادثه عن فريقهم المفضل ومباراته الشيقة ليلة البارحة، ليقهقها معا في غنج ودلال شهي. مابين الفينة والأخرى يتراجع الفتى الأبيض إلى الوراء ليلكزني في بطني الفارغ، فأشعر بامتلاء مثانتي. أضطر إلى زحزحة الأجساد المتلاصقة عن ظهري اللدن. أطل بوجهي على الضوء. لينعشني الهواء الجاف في الخارج. أمسك بطرف ثوبي بيدي. أودعه أسناني. أركض بشدة يلتفت نحوي بدهشة كل الذين تجمعوا حول فتحة جدار الاسمنت. يركض بعضهم خلفي، والبعض الأخر ينتهز فرصة هربي ليأخذ مكاني، ويدفع بجسده نحو فتحة الأسمنت، ليلتصق بالآخرين الملتصقين بعضهم البعض. أدير وجهي إلى الخلف. أرى أحدهم لا يزال يلهث خلفي. يشتد ركضي، ويشتد لهاثه. تهدأ قفزاتي السريعة، ويهدأ لهاثه. أقف فيقف بجانبي. أهم بمحادثته، فيعاجلني بلكمة في بطني. أسارع أضع يدي حول مثانتي. يبادرني: ” إذا كنت تنوي الهرب، لم أتيت هنا؟”. أقول في استجداء:” فقط كنت أريد حماما، وسأعود بعد قليل”. وما أن أكمل قولي حتى تركلني قدم على مؤخرتي، لأحتضن محدثي في وسطه. يبعدني بقبضتيه. يقول للقادم الجديد: “دعه لنر ما سيفعل، ولكن اتبعه إلى الحمام”. أستدير. أكاد أصطدم بعمود النور المطفأ الذي يقف وسط الرصيف. أمشي، والقادم الجديد يمشي بجواري ممسكاً بذراعي. يغمرنا صمت تام. أساله:” لمَ ركلتني من خلفي؟”. ينهرني بصوت غليظ. أقول على مضض :”عفوا. أنا آسف”. نستمر في المشي. يحدق في وجهي حين أنظر إلى البلاط المرصوف بعناية، وحين أرفع عينيّ، وأنظر في وجه عابر يتثاءب فإنه يرسل ومضة سريعة إليه، ثم يعاود التحديق في تفاصيل وجهي. أضع يدي حول مثانتي. أحاول أن أضاعف خطواتي لأطوي الرصيف بسرعة، ومرافقي ينظر إلي بغرابة، ويماثلني المشي، نمر بمجموعة من الأطفال الذين بدءوا يتغامزون ويضحكون لرؤيتنا. أجابهم مرافقي بابتسامة واهتزازة من رأسه المربع الذي أدارة نحوي، ليفجّر ضحكة قوية جعلت الأطفال يأتون بكل ما لديهم من ضحك. مشوا خلفنا. أدوا مشاغباتهم معي بإتقان. يقهقه مرافقي ويهديهم قطع حلوى. بعد أن يمل مرافقي التهريج يأمرهم بأن يعودوا من حيث أتوا. بدأت أهرول، ويحاول أن يشدّني من كمّ ثوبي أهرول، ويهرول معي. يصرخ بي: ” لم تركض هكذا؟” لا أجيبه. أحاول أ ن أضاعف خطواتي. يسألني: ” ألهذا الحد تحتاج الحمّام؟” . أنفاسي تتلاحق: “منذ أكثر من عام، وأنا أقاوم رغبتي” . يتأفف. يتمتم بكلمات غير واضحة. تعابير وجهه توحي بالغرض. ينوي محادثتي. أضع طرف ثوبي بين أسناني. أعض عليه. يداي حول مثانتي. أركض، ويهرول. يشعر بابتعادي عنه، فيركض خلفي. الناس ينعسون على الرصيف، وحين نتجاوزهم يديرون رؤوسهم نحونا، يعلقون بكلمات ساخرة، أو يضحكون فقط. يرهقني الذي يتناثر على جانبي الرصيف: الدكاكين الواسعة. اللوحات الأنيقة. الإسفلت النائم. صناديق القمامة الفارغة. إشارة المرور التي تتيح للسائقين العبور لتحظره عليهم، وكل شيء هاجع ورتيب. أقف فجأة. يقف خلفي مرافقي. أنظر إلى الحمامات المهجورة على الرصيف المقابل. ألتفت نحو مرافقي بسرعة. أبتسم. أشير إلى الحمام. أعبر الشارع ركضاً، وهو خلفي. أدلف الباب الخارجي ويدلف معي. أهم بالدخول إلى الحمام فيشدني من يدي. أفهمه أنه يجب عليه انتظاري في الخارج. يوافقني، فأدخل. الحمام أبيض ومغبر. مغسلة تستند على الجدار بعنق مغروس في الأرض، وصنبور ماء نحاسي تآكل طرفه. مقعد مجوف للداخل به فوهة تخترق غلاف الأرض الخارجي. لتلتهم القاذورات. أجلس على المقعد المغبر، ومثانتي متورمة، بل أني أشعر بامتلاء هائل في أسفل بطني. أنفاسي وعضلات بطني تقومان بعمل مجهد تماما، وما بين لحظة وأخرى أسحب حبل التنظيف الذي يغدق الماء ليدك به قذارتي. أنهض من على المقعد. أنظف جسدي كله. ثم أغسل وجهي. أفتح باب الحمام، وأبحث عن مرافقي في الحمامات المجاورة. أتجه نحو الباب الخارجي. الضوء في الخارج يصفع جبيني النظيف. أتلفت. أبحث عن مرافقي. لا أجده. لا أجد الإسفلت. الدكاكين. اللوحات. الأطفال. الناس. الرصيف والإشارة. لا أجد أي شيء.
نوفمبر 1987م

التراب

حقيبتي المدرسية تساقط كراريس مرهقة. ووجهي كمثل وجه قطتنا السوداء حين يغافلها نوم الظهيرة. أمي تهبني نظرة عجلى، وتتابع المشي نحو حظيرة شاة في ضرعها لبن فيه لذة للشاربين. أقرأ في كتاب الأناشيد:
الـــــــــولد النظيـــــــــــــــف منــــــــــــــظره لطيــــــــــف
وكلنـــــــــــــا نحــــــــــــبه وكلـــــــــــــــــنا ……………
ألحس وعاء اللبن الطازج. تلحس قطتي السوداء معي. أقفز إلى الشارع مخضب الشارب بالبياض، وقطتي السوداء تعتلي جدار جارنا لتبحث عن قط يقاسمها لذة القيلولة. في الجانب المقابل من شارع يغفو ضحى تثني (لولوة) ساقها اليسرى، وتمد الأخرى. تجوس يداها تراباً رطباً، ولسانها يحكي الأماني البسيطة. أمشي نحوها، وصوت أمي يثقبني كل مساء ممل:
– لا تلعب بالتراب يا حمود. التراب للبنات فقط!.
انتصب الآن أمامها:
– التراب للبنات التراب يطير في الدماغ. التراب يميت. التراب للبنات. التراب للبنات. التراب…
على التراب الرطب أمامها أضع قدمي، وأركله. ” لولوة” تنتفض، وبقايا التراب يتطاير بركلها الشقيّ له. تركض ورائي بخفة. أصكّ باب حمّام بيتنا على نفسي، لتدفعه بقوة تفوقني، وتصكّ الباب خلفها. وحيدان نحن، وفي يدها الصغيرة تنام يدي:
– يدك باردة يا حمود!.
وجهي تبدّل، وعين ” لولوة” الجميلة ترفّ في حياء وشوق. أدفعها نحو الجدار بلذة، ليثيرنا صراخ قطتي السوداء الذي ينبئ بألم لذيذ. نرقبهما على هامة الجدار أحدهما يتشبث بالآخر بجنون.
وفي مساحة من السطح نفعل مثلما كانوا يفعلون .
يونيو1988م

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *