اللُّغة و السَّرد يتشاركان البطولة المطلقة في نصوص يوسف المحيميد

يوليو 28, 2012 | لقاءات | 0 تعليقات

الرياض : منى أبو زيد لم ينجح الكاتب يوسف المحيميد في إعادة ترتيب أدوار البطولة في الرواية العربية فقط بل تفرَّد في إعادة صياغة فكرة البطولة في النص الأدبي . فالبطولة المطلقة في نصوص المحيميد للُغته بكل انسيابيتها و تقلصاتها و ثقوبها و انبعاجاتها، و للسرد بكل صراحته القاسية وجنونه اللذيذ، وانعطافاته الجليلة ونزقه الإنساني. المحيميد الذي نما في رحم المجتمع

العادي ينطلق من رؤية غير عادية فيثور على قوانين العزل و التنميط و على جميع أشكال العنصرية في مجتمعه، ثم أنه بعد كل هذا لا يعرف أشباح المؤامرة شأن الكثير من الكتاب العرب ! .  هذا الكاتب المختلف، الثائر بدماثة والفوضوي بأناقة، والمشغول برصد الأفكار والتحليق حول معانيها، يذوب في عادية الأشياء ثم يرينا إياها من خلال ذوبانه فيها ومن زوايا لم نكن نجهلها لكننا في ذات الوقت لا نلتفت إليها قبل أن يفعل هو.  هذا الكاتب العميق حد الألم والدهشة، والخالق لعوالم حرة في غرابتها ونزيهة في قسوتها.. تُحاكم الشخصيات فيها كاتبها الذي ألزمها ونفسه بالتفرد والاختلاف. ترى هل نجحت أسئلتنا الشاخصة نحو سلالم برجه العاجي في أن تعود أدراجها وقد صنعت ثقباً جديداً في حائطه الرابع؟! ..  

– تُعوِّل نصوصك في نهوضها بالأحداث والشخصيات على تقنية (الميتا سرد) أو الاشتغال على اللغة التي تصف حالة النص.. حدثنا عن فلسفتك مع هذه التقنية المُجازِفة؟!..   * طبعاً ليست فلسفة جديدة، بل سبقني إليها كتاب وسينمائيون وما شابه، كأن نكتب عن روائي يحاول أن يكتب رواية، أو نشاهد فيلماً عن مخرج سينمائي يحاول أن يصنع فيلما، أو مسرحي يجعل ممثله يحلم بأن يصنع مسرحية ما… وهكذا، فالميتا قص، أو الميتا سرد، هي نمط يسمح للكاتب بأن يحاكم كتابته بشكل نقدي وساخر أحيانا، وقد يقع الكاتب في المجازفة لأنه حاول أن يكتب بطريقة جديدة على تجربته، وهي تجربة قمت بها فقط في روايتي الأولى “لغط موتى” حيث يحاكم الكاتب شخوص روايته الأحياء والموتى على حد سواء.   – يوسف المحيميد لا يطرق المُعتاد ولا يركن إلى الجاهز العادي.. ألا تقلق – و لو قليلاً – من كل هذا الحرص على أن تكون مختلفاً؟!   * لقد عذبني هذا الحرص أو لنسمِّه الطموح، فكثيراً ما أبقى ساعات طويلة على مكتبي أفكر بتقديم نصي القصصي أو الروائي بطريقة مبتكرة، أو مختلفة عما كتبه غيري، أو على الأقل عما كتبته من قبل، فهو –كما أظن- قلق طبيعي، أو هو قلق إيجابي سيدفعني إلى المغايرة والاختلاف، لكن ما أخشاه هو أن يصبح قلقاً معطلاً، يصل إلى حد رفض كل ما يرد إلى ذهني من أفكار ورؤى ومقترحات حول الكتابة. إن الجدِّة والاختلاف ليست فقط في الموضوعات المتناولة في هذه الرواية أو تلك، بل يجب أن تشتمل على الشكل الفني المستخدم، معمار الرواية، اللعبة الفنية التي نمررها إلى القارئ، وهكذا. هذه المساءل حتى وإن أقلقتني فهي تستحق البحث والتمحيص، ليس بهدف أن أكون مختلفاً عن الآخرين، بل أحياناً بحثاً عن الرضا على الذات.

– قلت في أحد الحوارات عن أحلام مستغانمي بأنها ” قد تراجعت في (عابر سرير) لأنها لهثت خلف القارئ “.. بينما أنت ومن خلال اشتغالك على اللُّغة تحتفل بنصوصك أو تحتفل معها.. ما هو مكان القارئ من هذا الاحتفال ؟! ..   * بالعكس، القارئ له حظوة كبيرة فيما أكتب، ولولا هذه الحظوة لما وصلت إليه عبر رواياتي ومجموعاتي القصصية، ما أردت قوله في ملاحظتك تلك، أن للقارئ أحياناً سلطة، يجب ألا تهيمن على الكاتب وتجعله يذعن تماماً، وذلك بتجاهل جماليات فنية مذهلة، فينحاز إلى اللهاث خلف قارئ عابر، فأذكر أن رواية (عابر سرير) حظيت بمشهد مذهل يصف العنف الجزائري، حيث يحتمي البطل خلف باب كوخ ناء، وينتظر الموت تحت وطأة خلع المتشددين الدينيين للباب، بغرض قتله، لم أستطع أن أنسَ مشهد الباب، لكن الروائية للأسف مرت سريعاً عليه، وهنا مكمن أهمية وصايا “إيتالو كالفينو” حول السرعة والبطء في السرد، متى نتعجل؟ ومتى نبطئ ونصف بدقة وهدوء، هذا ما فشلت مستغانمي في تقديره في روايتها تلك.   – يقول بارت في كتابه نقد وحقيقة: (لم يعد هناك شاعر أو روائي لم يعد هناك سوى الكتابة).. نص (لا بد أن أحداً حرك الكراسة) للمحيميد هو نص بلا هوية.. هل تتفق معي في أنه كذلك ؟ .. وأين أنت من مقولة بارت هذه ؟! ..  * هذه التجربة هي كتابة حرة تماماً، متحررة ومتخلصة من التصنيف والوصايا، كتبتها فيما يشبه التمارين على الكتابة، كتبت معظمها في أماكن عامة، في الشوارع وعند الإشارات، على ورق فواتير، أو مناديل، كنت أكتبها شغفاً بالكتابة فقط، لكن أصدقائي غافلوني ودفعوا بها إلى الناشر، وبعيداً عن رؤية بارت، أرى أن الكاتب حتى لو لم يكتب سوى رواية صريحة ومؤطرة، أو شعراً صريحاً ومؤطراً، فإنهما ينهلان معاً من علوم إنسانية متنوعة كالفكر والفلسفة والتاريخ والاجتماع والنفس وغيرها، حتى وإن كانت الكتابة تبدو أنها رواية، أو شعرا.   – تمتد ثورتك على القوالب الجاهزة لتشمل الوصف والمسميات فأنت تُعرِّف نفسك في موقعك على شبكة الإنترنت بأنك كاتب وليس قاص أو روائي.. هل هذا إعلان ضمني لعدم اعترافك بهوية النص؟ ..   * أعتقد أن صفة كاتب أكثر شمولاً لما أفعل، حتى وإن عرفني القارئ كروائي أو قاص، فقد كتب أدباً للطفل ومسرحاً، وكتبت المقالة وأدب الرحلة… وهكذا. ولكن من الصعب أن نتجاهل هوية النص، فلست قلقاً من تسمية النص وتصنيفه، ولست قلقاً أيضاً من عدم تصنيفه، فعلينا أن نكتب أدباً جيداً فحسب، أي أن هناك أدب جيد، وأدب رديء، فمنذ طفولتي كنت أكتب وأكتب وأكتب، ثم أقوم بتمزيق ما كتبت وقد شعرت فجأةً بالتحسن، كنت أرى في الكتابة نوعاً من العلاج والخلاص، تلك الكتابة التي تأتي بأي وصف أو تصنيف.   – ” تتقاطع عوالم المحيميد مع غرائبية ماركيز وكافكا وإدغار آلان بو “..هذا ما قال به البعض في قراءتهم لنصوصك.. ما رأيك؟! .. وأين أنت من عوالم هؤلاء؟! ..   * لا أعرف كيف أقول ذلك، لكنني أشعر أن العالم الإنساني منذ مئات، بل آلاف السنين، يكتب نصاً واحداً، كأنما يتوالى هؤلاء المبدعون متتابعين ليدونوا أسطورة العالم الكبرى، سواء كانوا كتاباً أم نقاشين، خزافين أم نحاتين، فمنذ الكتابة على الحجر والألواح وحتى الكتابة على “الكي بورد” كأنما المنجز الإنساني هو عمل طويل لا آخر له، من هنا أجد روحي ونصي جاءت بوصايا الآخرين، الذين قرأت لهم وأحببتهم، ربما قدم بعضهم لي خيط السرد، وقال لي: سر من هنا! وربما تمردت بعد سنوات على وصاياه، وتمردت بالتالي على نفسي، وكتبت بشكل آخر.. وهكذا. فالرواية منذ سرفانتيس وحتى بول أوستر والأمريكي من أصل أفغاني خالد حسيني والياباني هاروكي موراكامي وهي تتناسل من واحد لآخر، كأنما هي شعلة نار، يسلمها أحدهم للآخر في سباق طويل لا آخر له.

– مشروعك ككاتب هو ثورة على مسلمات القارئ في المقام الأول.. هل تراهن بذلك على تمزيق الصورة النمطية للقارئ العربي ليكون الإطار متاحاً لصورة جديدة؟..   * القارئ العربي هو جزء من القارئ عموماً، فالقارئ في الغرب مثلاً، يشعر بالملل من الأفكار المكررة، فقد تكون لديه زاد هائل وضخم من الأفكار والرؤى والخيالات، عبر قراءات ممتدة، لذلك التفت الغرب إلى الشرق الأقصى، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وهكذا، بحثاً عن الجديد والمغاير، وكذلك القارئ العربي بات مهووساً لزمن طويل بالأدب الروسي والأوروبي والأمريكي، وهاهو يكتشف الأدب الإفريقي والياباني، وبالتالي يحاكم الأدب العربي من خلال قراءاته، ويطالبه بالتميز والتغير، وما أحكي عنه هنا هو القارئ المحترف، الذي لا يقف عند حد التسلية فحسب، بل ممن لا يكف عن البحث والأسئلة.

– قرأتُ للدكتور الغذامي رأياً قال فيه بأن كتابتك فيها اعتساف للذات وللنص وبأنك لا تأخذ راحتك مع نفسك أو نصك أو شخوصك .. ما رأيك ؟! ..   * مشكلة النقد عموماً، والنقد في السعودية خصوصاً، أنه يبحث عادةً عن النجاح الجاهز، فالناقد لا يكلف نفسه عناء القراءة والتقصي والبحث واكتشاف النصوص، بل يعتمد غالباً على التوصيات، اقرأ هذا الكتاب، ولا تقرأ ذاك، بالتالي تكونت لدى بعض نقادنا رؤى وأفكار جاهزة، معظمها نتاج ثقافة سماعية، وأخشى أن يكون الغذامي بين هؤلاء، فحينما تطلق كلمة عامة في حوار عاجل لا تضيف للمشهد الثقافي بعداً عميقاً ومساءلاً عما يحدث، بقدر ما تضيف جعجعة عالية.   – رمزية الممحاة في رواية (لغط موتى) هل هي دعوة إلى كتابة مذهب جديد مرسوم المعالم بعد محو المذاهب القديمة؟!..   * ربما هي دعوة إلى التمرد، إلى التجديد ليس في مذاهب الكتابة فحسب، بل في طرائق الحياة والعيش، هي أداة ملتبسة، فهي تمسح وتخلق من جديد، فالاحتكاك له أيضاً بعد خلق الكائنات، كنت أرد أن أشير إلى أن الخلق، خلق أي شيء، حتى شعلة النار، تأتي باحتكاك حجر بحجر، وهي الآلية ذاتها التي تمحو، فكأنما المحو والإزالة هو معادل للخلق والتجديد. حينما أقرأ كيف تخلّقت مذاهب الفنون وحوكمت وتجددت، حينما أقرأ عن نشأة الدادائية والسوريالية والحداثة وما بعد الحداثة، أجد أن الثقافة العربية والإبداع العربي يمكن أن تحمل مذاهب متطورة للفنون، يمكن أن تتحول من مجرد كونها تابعاً لثقافات، إلى مسانداً ومؤاخياً لهذه الثقافات..

– هل تتعمد الإيقاع بالقارئ للتورط في النص؟!..

* هي لعبة ممتعة للغاية، تعلمتها كقارئ أولاً، إذ كنت أعيد قراءة ما يشدّني من تلابيبي ويقودني كالمسحور إلى مهلكة النص، هذه القراءات المتتالية تكون متنوعة الأغراض، فقد تكون الأولى للمتعة المجردة، لكن ما يليها من قراءات هي محاولة تفكيك النص، وفهم أسرار بناءه، كيف بدأ النص، وكيف انتهى، وكيف يخبئ الكاتب سر المتعة، وما الأسلوب المستخدم في النص، كل هذه الأسئلة علمتني كيف أراوغ القارئ قبيل أن أسرِّب له خبراً أو حادثة، ولعل كثير من أسرار التشويق نجدها عادةً في الروايات البوليسية وروايات الألغاز وما شابه، فالرواية الحديثة قد تستفيد بشكل أو بآخر من هذه الأنواع، لكنها تشتغل على البحث والمعارف والجدِّة وصناعة لعبة الكتابة.

– القلق الوجودي هو قدر المبدع الحقيقي.. ينهش سعادته ويقوض رضاه عن نفسه ورضاه عن من حوله.. لكنه يظل أجمل مناخات الخلق والإبداع.. أين أنت من هذا القلق المُر واللذيذ في آن معاً؟!.. * بالفعل أرى أن القلق هو وقود الحياة، شرط ألا يتحول إلى عائق وكابح، بتحوله إلى داء يجلب العزلة والانكفاء على الذات، كما يحدث لكثير من المبدعين في العالم في أواخر أيام حياتهم، فالقلق الوجودي هو ما يخلق الأسئلة، تلك الأسئلة الجذرية حول الحياة والكون والإنسان، وهي عصب معظم الأعمال الأدبية العالمية الخالدة، وهو بالطبع ليس بالضرورة أن يكون عملاً يساءل الوجود والميتافيزيقيا مثلا، كما في أعمال هرمان هيسه أو ديدرو، بل أن اختراق السائد والمألوف في الكتابة هو من أسئلة القلق الوجودي، كما لدى كافكا وكونديرا وغيرهما. قد يملؤني القلق أحيانا حين مراودة الحكاية وصياغتها بأكثر من طريقة، وإعادة خلق الكائنات، ومساءلة الواقع الاجتماعي، واستعراض بدائل اللغة وطبقاتها وما شابه، ولكن القلق يستمر حتى الفراغ من الكتابة، فربما الحس النقدي جعلني أقفز فرحاً إزاء مشهد أصفه أو حالة أعبر عنها، لكنني أمتلئ غيظاً تجاه مشهد لم أحبه أو شعرت فيه بالخلل.

– سؤال لا بد منه.. ما هو جديد يوسف المحيميد ؟!..   * مازلت أتعلم الكتابة، أكتب كثيراً، وأمزق أكثر، أعيد وصف حالة ما، وأنسف حكاية ما بأكملها، أنسف رواية مكتملة أحياناً، لأسباب خاصة جداً، معظمها يرتبط بالبعد الجمالي والفني، كيف نخلق من العادي والمألوف عملاً فنيا خلاّقاً، فقد عشت السنتين الماضيتين أكتب وأعيد النظر مراراً، لشعوري أنني أدخل مرحلة جديدة في الكتابة، قد تكون تخلَّقت من قراءات جديدة، ومساءلة ذاتي وأدواتي، وقد تكون جاءت بعد تجارب النشر الخارجي، وتجربة التعامل مع المترجمين والمحررين الأجانب والوكلاء الأدبيين والناشرين، فأعتقد أن تجربة نشر روايتي “فخاخ الرائحة” بالفرنسية والإنجليزية، والتعامل مع ناشرين مؤثرين في العالم مثل “بنغوين” و”آكت سود” جعلتني أفهم أن الكتابة لم تعد لعبة ولا تسلية، بل هي مسؤولية أمام الذات أولاً، ومن ثم أمام الزمن والقارئ والعالم بأكمله.   عناوين فرعية:   – لقد عذبني الحرص على أن أكون مختلفاً.. وصفة كاتب هي الأكثر شمولاً لما أفعل!  – مستغانمي فشلت في تقدير مشهد انتظار البطل للموت في “عابر سرير”!  – العالم الإنساني منذ آلاف السنين يكتب نصا واحداً !  – أفكار بعض النقاد عندنا هي نتاج ثقافة سماعية و أخشى أن يكون “الغذامي” من بين هؤلاء!  – الكتابة مسئولية أمام الذات .. الزمن .. القارئ والعالم بأكمله!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *