“لغط موتى” تراهن على شكل جديد في الكتابة الروائية.. حوار: زوينة خلفان (قاصة من سلطنة عمان) هناك تلازم ما بين الفقد وبين الرائحة، ومعظم اشتغالي قائم على الآنيّ والذاكرة معا.. في عالم يوسف المحيميد الروائي يطغى هاجس الشخصية المأزومة المنطوية على سرٍّ كبيرٍ لا تتكشّف ملابساته للقارئ إلا عبر تقنيات سردية متجددة تفتح تساؤلات اللغة والذات والمجتمع،
وتتناثر في مسيرة السرد لوحات تشكيلية وصور فنيّة تتزاوج والأدوات السردية في الرواية. وقبل أن يلج المحيميد فضاءات الرواية الممتدة، كتب القصة ذاك الفن العصي«، وصدرت له عدة مجموعات قصصية، هي: (ظهيرة لا مشاة لها، 1989)، (رجفة أثوابهم البيض، 1993)، (لا بدّ أن أحدا حرّك الكرّاسة، 1996).. فجاءت هذه المجموعات مدخلا قويّا ومحرّضا على كتابة الرواية التي بدأها برواية (لغط موتى، 2003)، ثمّ (فخاخ الرائحة، 2003)، وصدرت (القارورة) عام 2004. كما صدرت له في أدب الطفل سلسلة (مغامرات الأشجار، 1998) و(قلم أسود في غابة الألوان، 2000). وفي هذا الحوار نقف على تجربة المحيميد القصصية والروائية…
ثمّة تحوّل تدريجي من القصة إلى الرواية في تجربتك الإبداعية، حيث تبرز هذه التجربة في كتابة القصة في حوالي أربع مجموعات قصصية ثم تتحوّل إلى كتابة الرواية لتصدر ثلاث روايات.. كيف تقرأ مسار هذه التجربة؟ ـ كانت القصة ولا تزال، ذاك الفنّ العصي، الفن الذي يراودني بين الفينة والأخرى، ثمّة حالات وشذرات خاطفة لا تعبر عنها سوى القصة القصيرة، وأحياناً القصيرة جداً، تلك التي تولي التكثيف، تكثيف الحالة والعبارة مكانتها، أما الرواية فهي نص واسع متعدّد، يكشف العالم الذي يضج بالمتناقضات والمؤامرات والدسائس، نص يقول ما لا تقوله الفنون الأخرى، بسبب اتساع زمنه وتعدد شخوصه، وقدرته على الاستفادة من جميع الفنون الإبداعية، بما فيها القصة القصيرة.. أحيانا أصف القصة القصيرة بعمل ضارب فرشاة أو فنان تشكيلي، تنتهي في لحظة خاطفة، بينما الرواية كما عمل النساجين، الذين يصنعون بدأبهم سجادة مليئة بالرسوم والنقوش والألوان. صحيح أنني أستمتع بنمو قطعة السجادة باذخة وبهيَّة، لكنني- لا أخفيك- أحنُّ مراراً إلى خبطة الفرشاة المجنونة.
من يتتبّع إصداراتك بانتظام، يلاحظ الفارق الزمني الجليّ بين كل إصدار وآخر.. هناك فارق ثلاث سنوات بين المجموعة القصصية والأخرى، ولكن اللافت أكثر هو صدور روايتيّ “فخاخ الرائحة” و”لغط موتى” في نفس العام 2003، تلتهما مباشرة رواية “القارورة” عام 2004.. هل تعتقد أن للزمن شأن كبير في كتابة قصة أو رواية؟ ـ أبداً، الزمن هنا تحكمت فيه ظروف الناشر بالدرجة الأولى، صحيح أنني عكفت في السنوات الخمس الأخيرة على كتابة الرواية بدأب، إلا أن الناشر تأخر في طباعة “لغط موتى” حتى عام 2003م رغم أنها مكتوبة عام 1998م، كذلك كانت “فخاخ الرائحة” المكتوبة عام 2001م، والمطبوعة عام 2003م، فهناك فاصل زمني جيّد بين رواية وأخرى، أحيانا أشارك في بعثرة التواريخ، بالتأخر في دفع الرواية للناشر، كما حدث مع “القارورة” التي لم أبعث بها إلا بعد مرور سنة كاملة على كتابتها، أحياناً أنتظر طويلا حيال النصّ، أهب نفسي الفرصة كاملة لأراجع وأراجع وأعيد النظر. كما أن هناك تبرير آخر للإجابة على سؤالك، طرأ في ذهني الآن، وهو أنني في الرواية أعيش حالة كتابة منتظمة يومية، فلا أتوقف إلا بعد أن أضع النقطة الأخيرة، لمدد تصل أحيانا ستة أشهر متصلة من الدأب اليومي وأحياناً أكثر، لأنني لا أدخل فردوس الكتابة اليومية إلا بعد أن أكون جاهزاً تماماً بعد مراحل من البحث والتحضير، بينما القصة القصيرة تنتهي في لحظتها، مما يجعلني في سعة من الأمر، بحيث لا أنجز إلا قصة مثلا كل شهر أو شهرين، أعتقد أن الرواية علمتني الدأب والشعور بالعمل الاحترافي. تعددت دور النشر التي خرجت فيها أعمالك القصصية والروائية، حيث صدرت مجموعة “رجفة أثوابهم البيض” عن دار شرقيات بالقاهرة ونصوص “لا بدّ أنّ أحدا حرّك الكراسة” عن دار الجديد في بيروت.. وصدرت رواية “لغط موتى” عن منشورات الجمل بألمانيا فيما صدرت “فخاخ الرائحة” عن رياض الريس في بيروت وأخيرا “القارورة” عن المركز الثقافي العربي في المغرب. كيف ترى تجربة النشر في أكثر من دار؟ ـ ليست جيدة على المدى القصير، لكنها على المدى البعيد تعلّم الكاتب آليات النشر في العالم العربي، بسبب إختلاف تعامل الناشرين، من حيث إنضباطهم ومصداقيتهم، وبعد أن يقارن بينهم يستطيع أن يتوصل إلى الناشر الأجدر بالتعامل معه، الأكثر إخلاصاً، الأكثر حرصاً، فالناشر – في نظري- ليس مجرّد تاجر فحسب، بل هو شريك في المنتج الإبداعي، أحبّ الناشر الذي يقرأ العمل مراراً، يتفحّصه كأنما هو كاتبه، ويحرص على توفره بعد الطباعة في كل معارض الكتب الدولية، وقد وجدت هكذا ناشرين، لكن المأزق الحقيقي لدى الناشر العربي، أنه لم يستوعب أن الكتاب يمكن أن يكون مربحاً عبر تسويقه جيداً، وعبر ترجمته إلى عدد من اللغات الحيّة، بعد إقامة علاقات جيدة مع ناشرين أجانب، وإبرام عقود معهم، خصوصاً فيما يخص الرواية، التي تحقق حضوراً رائعاً في النشر على مستوى العالم. بالنسبة لي، ولكثير من المبدعين في العالم العربي كما أظن، نطمح بناشر يحقق مواصفات تقنية جيدة للكتاب، ويلتزم بموعد النشر المتفق عليه، ويوزع الكتاب بشكل جيد في العالم العربي، وتكون شروط العقد معه منصفة للطرفين، لا أكثر.. تخيلي أحد الناشرين يشترط حصوله على نسبة 50% من أي ترجمة للرواية، وآخر يتنازل تماماً عن حقوقه لصالح الكاتب عند ترجمة عمله إلى اللغات الأخرى مقابل احتفاظه فقط بحقوق الطبعة العربية الأولى.. بالنسبة لي أشعر الآن أنني حدّدت ناشري المناسب، وسأستمر معه في المستقبل. يبدو أن للعنوان جمالية خاصة لديك.. هناك التقاطات دقيقة كمن يمعن النظر في نقطة أو يلتفت التفاتة خاطفة فيتمسك شيئا مهملا فيما العالم من حوله يتهافت على الواضح والمشّع، هكذا تلتقط تلك العين مثلا “رجفة أثوابهم البيض” أو الكراسة التي حُرّكت من مكانها أو فخاخ الرائحة.. إنها لعبة حواسّ أيضا تنتبه للأشياء الطفيفة وتلج أعماقها، كيف تراودك إيحاءات العنوان فيما أنت تكتب الأحداث والشخوص أو ربما حتى قبل مداهمة الفكرة؟ ـ يهمني ويقلقني العنوان كثيراً، قبل الكتابة وبعدها، قد يكون في كلام الإيطالي البرتو مورافياً شيئاً من الصحة، حين يشبّه العنوان بفستان المرأة، فإن كان ضافياً كثيراً حجب المعنى، وإن كان عارياً كثيراً كشف المعنى وانعدمت جاذبيته، بمعنى أنه يجب أن يكون بين هذا وذاك، يفصح ولا يقول كل شيء، يلمّح ولا يبدو طلاسماً! أحب العنوان البسيط الذي يثير الأسئلة، يثير حفيظة القارئ وشغفه، كنت ومازلت محبّاً لتتويج الحواس والانتصار لها في النص والعنوان، حاسة البصر درّبتها كثيراً منذ الطفولة، وحتى شغف الصبا بالكاميرا، حتى تحوّلت لديّ الحاسة إلى عدسة بجميع مقاساتها المعروفة لدى الفوتوغرافيين، من “الكلوز أب” وحتى “التلي فوتو”. ففي القصّ نهضت لديّ عدسة “الكلوز أب” فانتشرت في ثنايا القصص فداحة التفاصيل الصغيرة والغائبة، بينما أضفت إليها في الرواية عدسة “الوايد إنجل” التي تعنى بالمشهد كاملاً، أي الرؤية البانورامية. هكذا أشعر أن العنوان مدخل حقيقي للنص، هو الفخُّ الذي أنصبه للقارئ، فإما أن أغويه ويدلف معي إلى متاهة النص، أو أن ينصرف عني، كما أن مدخل النص مهم عندي للغاية، أشعر أن الصفحات العشر الأولى، بل أحياناً الصفحة الأولى، إذا لم أستطع فيها إغواء القارئ فقد يتحول إلى قارئ كسول، أو نص ممل. “لغط موتى”، أول رواية لك بعد أن كانت عملا قصصيا، وهي على لسان المتكلم الراوي الذي يفشل في كتابة رواية.. تحمل اتجاها تجريبيا في رسم الشخوص والأحداث، وتبدو شخوصها رمزية ومتحولة تدخل في لعبة التخفي والترصد للقارئ، فتارة تظهر من اللاشيء وتارة تنمحي تماما أو تتحول.. في هذه المشاكسة ألا ترى أن الراوي يعمد إلى فرض سلطة ما على القارئ تُغويه ليتعاطف معه بعد أن خذلته شخوصه؟! – أريد أن أصحح معلومة في السؤال، وهي أن “لغط موتى” كتبتها بقصد الرواية، ولم تكن عملا قصصياً، حتى وإن تم أقحامها مع قصص أخرى في طبعتها الأولى لدى إتحاد الكتَّاب العرب. أما مسألة فرض سلطة الراوي، فأظن عملياً أن الروائي يفرض سلطته كثيرا من خلال التحكم بشخوصه، وكانت “لغط موتى” تراهن على شكل جديد في الكتابة الروائية، كنت ومازلت أشعر أن على الروائي أن يجد لعبته الفنية، أو لنسمِّها حيلته الفنية المناسبة، كي يقدم شخوصه ومكانه وعالمه الروائي، وهكذا كانت فكرة “لغط موتى” وهي الإجابة على سؤال صديق: لماذا لا تكتب رواية؟ فكان تبرير السارد وقول العوائق في مجتمع صعب ومنغلق، وأمام شخوص مساءلين ومتطلبين ولحوحين، هي صلب الرواية وجوهرها. تصادفنا في غلاف “لغط موتى” كلمة (رواية) تحت اللوحة مباشرة، ثم بعد صفحتين من الغلاف يُكتَب: “رسائل لن تصل إلى عبدالله السفر”.. كيف يمكن لهذه الرسائل أن تكون رواية؟ ـ هي مجرّد لعبة أو حيلة فنِّية كما أسلفت، مجرّد إناء لوضع شخوص وأحداث وعوالم داخله، فالرواية الحديثة كما نعرف تستلهم المذكرات والرسائل والوثائق والتاريخ وغيرها، من أجل صنع نص سردي طويل، أحياناً يوظّف الروائي مذكّرات متخيّلة للشخصية من أجل كشف عالمها، وأحياناً يستثمر رسائل متخيّلة لرسم عالم الشخصيات، وأحياناً يكون للوثائق دور في الرواية، سواء كانت هذه الوثائق حقيقية أو متخيّلة، وهكذا. تبدو اللغة أكثر اختزالا وتكثيفا في البناء السردي لهذه الرواية، تغري القارئ بالتوغّل فيها وتفكيكها.. لغة مربكة تكسر التوقعات ومفاجآتها لا تنتهي، بينما يتسيّد الحدث والشخوص البناء السردي في “فخاخ الرائحة” و”القارورة”، حيث فضاء اللغة أكثر اتساعا وتعددا في الأصوات السردية، ينشغل القارئ فيهما بما يقلق الشخوص ويكتشف أن معاناتها جزء من الحياة اليومية.. هل يمكن اعتبار “لغط موتى” مدخلا لكتابة روايات أخرى من حيث أنها تعكس تجربة ذاتية، الدافع وراء كتابتها تحريض الأصدقاء ثم تتطور التجربة إلى إيلاج مناطق روائية أكثر تنوعا وتشعبا في اللغة والسرد والشخوص والأحداث بالنسبة للروايتين التاليتين؟! ـ هذا النمط الروائي مربك حقاً، ففي الوقت الذي هوجمت فيه الرواية في السعودية بوصفها تهويمات وشخصيات غير واضحة، تمّ الاحتفاء بها عربياً، إلى درجة أن وصفها ناقد لبناني أنها أهم رواية تجريبية في السعودية حتى الآن! بالنسبة لي كانت “لغط موتى” تجربة محرّضة، لي قبل الآخرين، لكتابة شيء مختلف، لكتابة رواية إشكالية، وهذا ما تحقق فعلا، فيما بعد أدركت أن عليّ أن أدلف مناطق أخرى في الرواية، يقودني في ذلك ضرورة تعدّد الأصوات، وهي أهم عناصر الرواية الحديثة، أما الآن فأنظر إلى الزمن بوصفه عاملا حاسماً في تداخل حيوات متعدّدة، وهذا ما قد يدفعني إلى منطقة جديدة في كتابة رواية أخرى جديدة ألغى الزمن فيها تماماً، ويتداخل فيها شخوص من فترات زمنية متفاوتة. في “لغط موتى” يجاهد الراوي كثيرا في إقناع شخوصه بأهميته كراو ويحاول أن يجد له موطئا فيما هم يقومون بقمعه رغم أنه هو من يكتبهم.. يشعر أن ثمة من يرقبه، لا يكتب بحريّة ويجد صعوبة في الكتابة عن الآخرين لأنهم لا يتركونه وشأنه ولن “يتخلص من أرواحهم الحائمة حوله مثل فراش ملوّن”.. وفي “فخاخ الرائحة” و”القارورة” يكبر الراوي وينفصل عن سطوة شخوصه، له صوته الخاص الذي يتجدد في مقدرته على التخفي وعدم استعطاف قارئه، إنه يملك سلطة السرد بحذق ويقدم شخوصه بصدق من دون أن يتدخل في مصائرهم، يكتب بحرية ويلج محظورات كثيرة .. هكذا أرى تطور الراوي في الروايات الثلاث.. ـ بالضبط، هذا ما حدث على مستوى تطور الأدوات، أشعر أن الكاتب الجاد والحقيقي هو من لا يكف عن اختبار أدواته، لا يكف عن مساءلة ذاته المبدعة، فالكتابة ليست تركماً من حيث الكمّ فحسب، بل هي تقديم صور متطورة أو متغيّرة كل فينة، هل يمكن أن تخرج امرأة للناس برداء واحد طيلة سنوات؟ ألا تشعر بالملل أن تلبس الفستان ذاته، والحذاء ذاته، وحقيبة اليد ذاتها؟ هكذا الفنان ونصه، يبحث دوماً عن نمط متجدّد في الكتابة، لا يتردّد في الدخول إلى مناطق وعرة، إلى دهاليز ومغارات مظلمة، زاده فيها شمعة الإبداع والفن، وذاكرته تراث العالم كله في الفن الروائي والمعرفي والفلسفي. يقول الكاتب المغربي خالد الدهبية في دراسته عن “فخاخ الرائحة”: “إلا أن الذي يستحق الوقوف عنده من بين هذه الشخصيات الثلاث في المنظور السردي، هو طراد، فهو الصوت المركزي الذي يمارس وظيفة الفعل من حيث هو شخصية من شخصيات الرواية، كما يضطلع بوظيفة التصوير، باعتباره ساردا، سواء لما يتصل بمحكيه الذي عمل فيه على تأجيل لحظة سرد الحدث المؤثر في مساره ككل، نعني لحظة قطع أذنه اليسرى، أو ما يتصل بمحكي غيره…الخ”*، أتوقف هنا عند عبارة “تأجيل لحظة سرد الحدث المؤثر في مساره ككل”.. ذلك أن اشتغالك على هذه الفكرة يبرز في كلا الروايتين الأخيرتين، ففي “فخاخ الرائحة” يجلس طراد في محطة السفر ويسترجع كلّ شيء ويضع تصوراته عن حياة ناصر ويتذكر صديقه توفيق فيما تظل قصة أذنه المقطوعة غائبة عن القارئ ويرجأها حتى النهاية رغم أنها تشكل عصبا مهما في نسيج الرواية وأحداثها كلها بل في حياة طراد نفسه.. وفي “القارورة” تُرجئ منيرة الساهي سرد الحدث المؤثر في حياتها وهو اكتشاف الخديعة التي وقعت فيها ليلة زواجها.. تتناوب مع السارد حكي الأحداث التي أحاطت بحياتها مذ تعرفت على علي الدحّال، تتذكر وهي مستلقية في فراشها فتنثال أحداث الحكاية البعيدة فيما الفضيحة قد تكشّفت ذيولها البارحة فقط ولا تخبرنا بها إلا في نهاية الرواية.. أرى أن مثل هذا الاشتغال قادر على تخطي فكرة السرد التقليدي التي تقوم على الإخبار لإيصال الحدث فقط.. بينما فكرة إرجاء سرد الحدث المؤثر ليست مجرد تشويق وإدهاش بقدر ما هي حاملة أبعادا نفسية عميقة للشخوص التي تعيش حياة مهمّشة ومحرّمة وخارج مكانها وزمانها.. فضلا عن أنها تضفي جمالية للسرد تنأى عن التنميط.. _ تماما هذا صحيح، هي عناصر مجتمعة تحرّض على الكتابة الحديثة والمتجاوزة، فجمالية تأجيل الحدث الحاسم تحمل إضافة إلى تشويق القارئ والاحتفاظ به حتى آخر سطر، تحمل أيضاً الأثر النفسي الذي من الأجمل توصيفه بطريقة مقنعة، قبل أن نشرح الحالة الحاسمة للحادثة، دائما أتذكر مقولة تشيخوف، بأن الكاتب حين يصف مسماراً في غرفة البطل، فهو يهيئ لشنق البطل وانتحاره بواسطة هذا المسمار أو المروحة أو ما شابه، هكذا كانت “غترة” الشخصية الرئيسة في “فخاخ الرائحة” تخفي شيئا ما، حيث يلف بها وجهه، ثم تتكشف المسألة تباعاً حتى الفصل الأخير. أتصوَّر أن عين الروائي دائما يقظة، ونظرته إلى الحادثة نظرة شمولية، نظرة بانورامية، تشبه عين الصقر المحلِّق، ينظر من الأعلى إلى المدينة، ثم إلى الحيَّ، ثم إلى الشارع، فالعمارة، فالشقَّة، فالفوضى داخل الشقَّة، فالغرفة المسدلة الستائر، فالرجل المستلقي ينظر إلى السقف، فأعماقه الباطنية، فهواجسه وأحلامه ومتاعبه…. ثم الانطلاق إلى جولة بانورامية جديدة عبر مونولوج داخلي مثلا، أو علاقات مع محيطه ….. وهكذا. أظن أن الحوادث يومية ومتاحة للجميع، ولكن كيف نستلهم هذه الحوادث ونمرِّرها في مختبر الكتابة، كيف تلج وعي السارد والمبدع، كيف يفتت الحادثة اليومية العابرة، كيف يشظِّي الزمن، ويشرِّح الشخصية، ويرسم المكان بفرشاة من ذهب الكلام.. هكذا هي الرواية الأكثر أدهاشاً كما أرى.
يصنّف خالد الدهبية الروائح في “فخاخ الرائحة” ويربطها بالخديعة والعبودية والطبقية وطقوس الاخصاء والألم والانتماء الزائف والعقاب… وكلها ذات مؤشرات اجتماعية، هل يشير ذلك إلى أي مدى يمكن للحواس أن تتدخل في تكوين الشخصية حين ترتبط بتجارب اجتماعية ووجودية قاسية؟!! _ نعم هي كذلك، أنا لا يمكن أن أتخيّل رواية لا تولي الحواس أهميتها الطبيعية، هل يمكن أن تأتي رواية دونما روائح تفض تلافيف الدماغ وترسل إشاراتها إلى عصب الذاكرة، أليست الذاكرة هي عبارة صور بصرية وسمعية وشمِّية؟ فهل يمكن أن نقرأ رواية دون أن نسمع الأصوات فيها، النشيج والنشيد، الهمس والهتاف والغضب، وما يتبع ذلك، أليس الصوت سواء كان أغنية في الذاكرة أو صوت مقرئ ما يحيل إلى تجربة حياتية غائرة في الماضي؟ هل يمكن أن نستمتع برواية دون أن نشعر باليد التي تتحسس وكأنما هي تلمسنا فعلا، أظن أن الحواس مهمة في الرواية الحديثة، سواء كانت محور الرواية، أو على ضفافها وهوامشها. توظف الروايتان فعل التذكر مقترنا بلازمة أو فكرة.. فالقارورة هي مستودع أسرار وحياة منيرة الساهي، كل ما تتذكره وتعيشه من أحداث حزينة تودعه القارورة لأن جدتها كانت تقول لها أن العشب ينمو مع الحكايات الحزينة.. وفي “فخاخ الرائحة”، كان كل ما يُذكّر بالرائحة يذكّر بالفقد: فقد الأذن والعين والرجولة… _ تماماً، أشعر كأنك استطعت أن تقرأي ماوراء النص، حتى قبضت على أدواتي وسرّ اشتغالي على الرواية. عموما كان هناك تلازماً ما بين الفقد وبين الرائحة، ومعظم اشتغالي قائم على الآني والذاكرة معاً، رغم أنني أولي التذكر أهمية قصوى، أتصوّر أن ثمّة تداخلا بين الحالة الآنية وبين حالة تيار الوعي، أو “الفلاش باك”، بمعنى أن من الصعب الفصل بينهما، اللحظة الراهنة تمتزج بلحظة الأمس، وحتى إن كانت لحظة الأمس أكثر ثراءً في نصي، فمحور النص يركّز على لحظة الآن. لم أجرّب بعد كتابة اليومي الحركي، بعيداً عن أسلوب الإسترجاع والتداعي والمونولوج الداخلي، لا أعرف.. قد يأتي نص يكون محوره الأساس المكان اليومي الحركي، بمعنى اللهاث مع شخصية متحركة ومتنقلة. يرى الروائي السعودي عبده خال* أن ثمة مشكلتين كبيرتين واجهتا الرواية السعودية في مراحلها الأولى وهما تغريب الرواية عن المكان وترحيل الشخوص.. حيث عمد الروائي السعودي إلى إيجاد بيئة أخرى لروايته أكثر انفتاحا مثل لبنان أو مصر، بعيدا عن قيود مجتمعه ورقابته حيث يجري ربط شخوص الرواية بالكاتب وزعم أن الرواية سيرة ذاتية.. وثمّة بالمقابل تجارب روائية حديثة اخترقت التابو والممنوع واقتربت من الحياة الاجتماعية الممنوعة بذكاء واشتغال جمالي بارز.. كيف تقرأ تجربة تجربة الرواية السعودية في ظل اشتراطات المجتمع والسياسة والدين؟! ـ أتفق مع عبده في هاتين المشكلتين، لكنني أشير إلى مشكلة ثالثة قد تظهر، إن لم تكن قد ظهرت فعلا، وهي الاقتصار على إختراق التابو والمحرم بعيداً عن الجماليات الفنية، ففي بعض الروايات الجديدة، تسابق الروائيون والروائيات في السعودية إلى دخول مناطق التابو، بعد أن سبقهم إلى ذلك تركي الحمد والقصيبي، ولكن علينا أن ندرك أن مجرّد الكتابة عن الممنوع والمحظور لا تعني رواية ناجحة، بل لا بد من أن يتقن الروائي أدواته، ويستخدم كل طاقاته للوصول إلى شكل فني وجمالي مغاير، علينا أن نبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون، فلست محتاجاً مثلا أن أعيد الرواية البالزاكية، وكذلك عليّ أن أكون حذراً من أكون باتريك زوسكيند أو باولو كويلهو، ما أريد قوله علينا أن نستفيد من تجارب العالم في الفن الروائي، ولكن باشترطاتنا، بمعنى أن الواقعية السحرية، مثلا، لن تكون سحرية أمريكا اللاتينية، بل قد يكون لها شكلها الخاص في الجزيرة العربية، ولكن علينا الصبر والبحث من أجل اكتشافها.. هكذا أتمنى أن لا ندخل في التبسيط، وقراءة تجربتنا الروائية في السعودية وطموحها بشكل أقرب إلى السطح منه إلى العمق، بشكل يراه القارئ ممن لا يملك الأدوات الفنية للرواية لا الروائي ذاته الذي يمتلك الأدوات ويساءلها كل مرة. حضرتَ معرض فرانكفورت الدولي للكتاب حيث كان العالم العربي ضيف الشرف لهذا العام، وقد كثر النقاش والجدل حول طبيعة المشاركة العربية قبل وأثناء وبعد المعرض.. كنتَ قريبا من المشهد، كيف بدا لك؟ _ أتمنى أن نتجاوز مرحلة جلد الذات التي نمارسها على أنفسنا حين نقوم وحين نجلس وعلى جنوبنا. نعم هناك خلل في فهم آليات المعرض لدينا نحن العرب، هناك قصور في الترجمة إلى اللغات الأخرى، هناك حضور ضعيف أحياناً، ولكن كل ذلك لا يلغي أننا حضرنا في المعرض ثقافياً بشكل لائق. ما يؤلمني حقاً عدم فهم الناشرين آليات النشر والتعاقدات، التي لم يستفد منها أغلبهم، خصوصاً في هذه الدورة، ولم يقدّموا مبدعين عرب مؤثرين عبر عقود الترجمة إلى لغات أخرى، فلم تصل أصواتهم إلى الغرب، حتى بدوا أقل حضوراً ممن يكتبون بلغات أخرى، فهل مثلاً المصرية أهداف سويف أهم وأكثر تأثيراً من خيري شلبي ومحمد البساطي ويوسف إدريس وغيرهم؟ وهل روائيين مغاربة مغمورين يكتبون بالفرنسية أهم من محمد برّادة ومحمد زفزاف وغيرهم، وهكذا؟ المسألة فقط أن هؤلاء تخلّصوا من عبء الناشر العربي البسيط، وكتبوا بلغة أخرى وتعاملوا مع الناشر الأجنبي بشكل مباشر.
* خالد الدهبية، رواية الحواس: دلالة العنوان ومحافل التخييل في “فخاخ الرائحة” ليوسف المحيميد، مجلة نزوى/ العدد (40) أكتوبر 2004 * ملف الرواية في المملكة العربية السعودية- مجلة بانيبال – العدد 20، صيف 2004
0 تعليق