كتبتُ بشهوة غريبة وكأني أغسل عزلتي بالكتابة

يوليو 28, 2012 | لقاءات | 0 تعليقات

حوار – محمد عبدالله الهويمل (لغط موتى) آخر روايات الكاتب يوسف المحيميد صدوراً وتأجيلاً فقد شرع في كتابتها وانجزها قبل ما يربو على سبع سنوات وأَذنَ لها مؤخراً لتعانق النور وتحتل حيزها في بقعته الممتدة بامتداد ما بلغته واقعيته السحرية.  يوسف يبعثر الأشياء الملتئمة ويوزع قارئه بينها ثم يسأل.. ماذا تسمي ذلك الذي يستحيل فيه اللامرئي إلى يقيني أو إلى ظن يصاعد

حثيثاً حتى يصير يقينا.  يوسف ينسحب من لغط الأحياء ليرصد لغط الموتى ويكشف لمريديه شيئاً من أسرار كيمياء الخلوة وحيوية الجماد ويطرح تعريفه الخاص للوهم ونضال المستميت أمام الجبهة المتحالفة (اللغة – الحدث – الغرائبية – المتلقي النمطي (مثلي).. هذا ما أحصيناه من خصوم يوسف غير أنه يفضح قائمة خصوم الجبهة بكشف أسماء لا يراها غيره وإن زعمنا أننا عاضدناه في المأسدة إلا أننا وجدنا أنفسنا في طليعة قائمة الخصوم الذين لم يدركوا بعد نبل وسماحة هذا المناضل الشريف (يوسف المحيميد).  “ثقافة اليوم” تزجي لقارئها وقارئه هذه المكاشفة المشمسة.  * (لغط موتى) كشف ورصد ما ورائي لحيوية الجماد.. ما أسرار انسحاب يوسف من رصد (لغط الأحياء)؟  – لم يكن انسحاباً، بل لأن لغط الأحياء أمراً طبيعياً، يمكن أن يرصده كل عابر، ولكن الدهشة – كما أرى – أن تكون محاصراً بلغط موتى، أن تسمع وحدك لغط الموتى، أن تسمع مآسيهم وأحزانهم وسخطهم وأوهامهم، أن يتحول همسهم وشغب أرواحهم إلى لغط وضجيج وخصومه تحاصر الراوي!! هكذا كانت اللعبة الفنية في الرواية، أو محاولة إيجاد صيغة حسم كتابة رواية، والبحث عن مبررات وذرائع لصعوبة وخطورة كتابة رواية، هذه المبررات والذرائع تتحول في النهاية إلى رواية!! لذا فإن كون الراوي شرح صعوبة أن يحكي عن هذا الموقف الدرامي، ويغفل الموقف الآخر، وأن يحكي عن هذه الشخصية ويغفل تلك، فهذا جعله يمسك بخيط الرواية، بل حتى الموتى يحضرون فوق طاولة الراوي يساءلونه: لم أهملتنا؟ وقد استهوتني اللعبة لحظة الكتابة، فوجدتني أنقاد مستسلماً لهذه العوالم، مذهولاً بها.  * الواقعية السحرية ببعدها الغرائبي مشروع اضطلع به أقطاب سرديون ك “استورياس” و”ماركيز”.. هل (لغط موتى) منحى تجريبي لواقعية سحرية؟  – صدقني – يا محمد – أنني لست معنيا عما إذا قدم عملي نموذجاً لواقعية سحرية كما في أمريكا اللاتينية، أو واقعية قذرة كما في أمريكا الشمالية، أو رواية تجريبية كما في أوروبا أو ما شابه!! كل ما في الأمر أنني مهموم كثيراً جداً بكيفية كتابة رواية، ولست مهموماً فقط عم أكتب؟ أو ماذا أكتب؟ دائماً كنت أتساءل كيف أكتب هذه الأحداث؟ فالأحداث والشخوص والأفكار ملقاة على قارعة الطريق، ولكن كيف نصنع من هذه شخصيات روائية؟ كيف نحول حدثاً عادياً وعابراً إلى تحفة فنية روائية؟ بمعنى أي بناء، وأي معمار نستخدم لكتابة رواية ناجحة؟ والسؤال الآخر والأكثر خطورة هي أي رؤية فكرية وفلسفية نقدم في هذا العمل أوذاك؟ ليس عبر أفكار فلسفية جافة ومعروفة ومشاعة، بل عبر سلوك الشخصيات وأفعالهم وأفكارهم، ووساوسهم، وهذا ما تفشل فيه كثير لنا أكثر من الروايات، خصوصاً الروايات العربية.  * اكشف لنا أكثر الأسرار التركيبية لكيمياء الخلوة عند يوسف؟  – يبدو في سؤالك ذكاء وإحاطة بعمل مثل (لغط موتى) إذ كنت أعيش خلوة أو سمها عزلة اختيارية، جعلتني أبدو لكثير ممن قرأوا الرواية أنني أحد أبطالها، أو مشاركاً في أحداثها ولو بشكل ظاهري وفوقي، كما فعل أحد النقاد!! لقد عشت لحظات جميلة رغم قصر الرواية، إلا أنني أكتب بشهوة غريبة، لدرجة أنني كنت كمن يغسل العزلة بالكتابة!!.  فالخلوة والعزلة كما أرى هي مزيد من التأمل، والكتابة في جزء كبير منها هي تأمل وتعمق فيما يظهر وما يخفى، فلا زالت أذكر كيف تفوق ايتالو كالفينو في كتابه “السيد بالومار” في البعد التأملي العميق، وفي أعماله الأخرى في الجانب التخييلي، كروايته “الكونست المشطور” وغيرها. كما أن الخلوة هي ما جعلت بورخيس يقدم أعمالاً متفوقة كثيراً في هذا الجانب التأملي.  * (وشيئاً فشيئاً بدا أن الاشكال المخيفة بدخانها تسلل من النافذة وأنا ما بين الصحو والغيبوبة) لا بد أن ليوسف تعريفه الخاص للوهم؟  – أن نجزم أننا نمتلك الحقيقة الوحيدة في العالم فهذا وهم، أن نشعر أننا نمتلك اليقين فهذا وهم، أن نرى أن لدينا الإجابات لجميع الأسئلة فهذا أيضاً وهم!! أنت تعرف أن ثقافتنا العربية مليئة بالأوهام، تلك الأوهام تحولت إلى مسلمات لا يمكن الجدل حولها!! دعني أضرب لك مثلاً بسيطاً حول بعض الأوهام في مرحلة الحداثة، وهي فكرة التقدم، التي تتصور أن التاريخ الإنساني يتصاعد من الأدنى إلى الأعلى ، هذه لم تعد حقيقة راسخة وليست يقيناً ، فقد يحدث في التاريخ الإنساني بربرية ما، وهبوط الأعلى إلى الأدنى، كما حدث في الحرب العالمية الأولى، تبعها ظهور النازية والفاشية وما تبع ذلك من حرب عالمية ثانية، زامنها وحشية وبربرية لا يمكن وصفها، وكما يحدث الآن على الوضع السياسي العالمي، والوضع الإنساني، أو ما قد يحدث في الشرق الأوسط قريباً، من أوضاع وحشية فظيعة مقبلة!! هناك أوهام كثيرة، كوهم النظر إلى الزمن من منظور الفهم التراتبي أو الخطي، وفي هذا مفهوم قمعي لزمن يتسم بالفوضوية، وقس على ذلك فهمنا للإبداع والشعر والفن الروائي، وما أحيط بها من أوهام ومفاهيم قمعية، قد تجعل هذه الفنون تتوقف عن الإنجاز والتفوق الإنساني، خصوصاً ونحن نحصرها في شكل ونمط جاهز وسلطوي.  * كتبت (لغط موتى) و(شتات الموتى).. ما البعد المبطن في جدلية الموت والحياة عند يوسف؟  – بعيداً عن مفهومنا التقليدي للموت، أو للفهم الفلسفي حول الموت، يبقى الموت لغزاً مذهلاً، يقابله وله وبحث دائم عن سر الخلود، منذ أن هام جلجامش على وجهه، بحثاً عن نبتة الخلود، بعد أن مات صديقه أنكيدو، وحتى لهاث العلم الحديث بعلم الاستنساخ، مروراً بفنون التحنيط، وبقاء الأرواح طائشة بين الأحياء وما شابه. بالنسبة لي لا أملك رؤية نهائية حول الموت، بل إنني لا أكف مثل طفل عن الأسئلة حول هذا اللغز!! أشعر كثيراً أن نتأمل الأشياء والكائنات من حولنا وكأننا نراها لأول مرة، يساعدنا جيداً في رؤية وفهم هذه بشكل أكثر فرادة وتميزاً، تماماً كما الأطفال الذين تقودهم الدهشة إلى كشف الأسرار والألغاز!!.  * كتبت للأطفال (مغامرات الأشجار) و(حلوم والكنز) و(قلم أسود في غابة الألوان).. ما ضريبة المرونة التي يدفعها يوسف الفانتازي ساعة يشرف على الماوراء وينحني للطفل؟  – ليست ضريبة، بل هي حالة متصلة لا أكف عن ارتيادها، أن تكتب للطفل، فأنت تنظر بشكل بسيط إلى العالم من الأسفل، أن تستخدم المعنى الأول للمفردة، أن تعود إلى طفولة اللغة، في قاموسها البدائي، تماماً كما تعود إلى الطبيعة البكر، في تفاصيلها الأولى!! وقد تدهش أن العلاقة حميمة بين الفانتازيا والخيال وبين ذاكرة الطفل ووعيه الأولي، فلحظة الكتابة للطفل تشبه الطيران فوق بساط سحري، لا شيء أبداً يحد خيالك طالما أن سلاحك هي الكلمات!! كما أشير أخيراً إلى أنني لا أنحني للطفل، بل أقف بجواره وننحني معاً بأيد راعشة لنلمس الفراشة بجناحيها الملونين، ثم نطير معها بأجنحة شفافة من خيال!!.  من هنا فإنني لا أرى ثمة مأزق أو ضريبة عند الكتابة للطفل، باستثناء التوقف عن الاحتفاء باللغة بحد ذاتها، وهذه كانت لي أشبه بإنقاذ وخلاص، لأنني اكتشفت أن بإمكان النص الإبداعي عموماً، كالقصة والرواية وبالطبع قصة الطفل، قد تتكئ على عناصر أخرى، كالحدث والحكاية والدراما، التي أجد فيها لذة مدهشة، وأنا أكتب بعض الروايات القصيرة للفتيان، تلك الدراما التي تعتمد على ما هو خيالي وفانتازي، ولا تخلو من بعض الحكمة أو الشذرات الفلسفية، لذا لم أجد في الكتابة للطفل أي ضريبة، بل كما أسلفت فتح جديد في عوالم كانت مغلقة أمامي، فانفتحت لأدخل مذهولاً في دهاليز مغارة تخبئ الكثير من المفاجآت والغرائب.  * ما مدى الإرهاق الذي لحق بك ساعة تحارب على جبهات متحالفة: اللغة، الشخوص الغيبية، الحدث المأزوم، الغرائبية، واستحضار القارئ النمطي؟  – بالفعل كأنما تلمس التساؤل والقلق بداخلي، ويمكنك أن تضيف إلى الجبهات: البناء والمعمار، الشكل المغاير، كتلة النص وتماسكها، الرؤية، البعد الفلسفي والإنساني، فضاء المخيلة وغيرها من الجبهات المحتملة، إضافة إلى قارئ متخيل، لا تعرف بأي شكل وصيغة يمكن أن تصل إليه، ولا تدرك كيف سيرى عوالمك ومناخات نصك الإبداعي، لأنك قلماً تلتقي به، ويتحول إلى كائن مادي وحقيقي وملموس.  قد لا أخفي أنني بدأت أدرك التعامل مع قارئ حقيقي وليس افتراضياً، وهو من يساعدني أحياناً على اصطياد بعض الأفكار والرؤى، ولكنني أثق أن القارئ في الغالب لا يكف عن البحث عن متعة القراءة، ومن ثم البحث عن معنى محدد وقطعي ويقيني، وهذا مؤلم بحد ذاته، لأن الكتابة الإبداعية ليس من شأنها اليقينيات والحلول التبسيطية. ولعل أبرز قارئ يقف أمامي ويعاتبني ويجادلني أحياناً هو القارئ الطفل، فهو أكثر حسماً تجاه النص، اما أن يحتفظ به، ويعيد قراءته مرات عديدة، ويستمتع ويكتشف في كل قراءة، أو أن يقذف به ببساطة عند منتصفه، ضارباً بمشاعر الكاتب عرض الحائط، لقد تعلمت من هذا الكثير.  * (ماذا تسمي ذلك الذي يستحيل فيه اللا مرئي إلى يقين أو إلى ظن يصاعد حثيثاً حتى يصير يقيناً، وماذا تسمي تلك الوسوسة التي تنتشر في دمك حتى تكون شيئاً حسياً تراه أمامك كأن ترى الضيف قبالتك فجأة أو ابنك ينفرط بين يديك العاجزتين) سؤال سبعث به يوسف إلى أقرب قارئ وأقربهم يعيد السؤال إلى يوسف؟  – إنني أتساءل فعلاً معك ومع القارئ، ماذا نسمي ذلك؟ هل هو الحدس أم التنبؤ أم استشراف المستقبل أم التخاطر أم ماذا؟ فقد يحدث أن نتخيل شيئاً لا مرئياً فينبت أمامنا كشيء فعلي وحقيقي وملموس!! يحدث أحياناً أن نسمع حواراً حقيقياً وكأننا سمعناه من قبل، لدرجة أننا نستطيع أن نكمل حوار الشخصين المتحاورين نيابة عنهما!! نفكر في شخص فنجده فجأة يقف أمامنا، ثمة احتمال قياسه 1% لكنه فجأة يصبح 100% أو العكس.. أليس كذلك؟ إنني عادة أبعث الأسئلة ولا أبعث الإجابات، الإجابة بالنسبة لي جماد مقابل الحركة في السؤال، نحن بحاجة حقيقية إلى مزيد من الحراك، سواء الاجتماعي، أو الإبداعي، مما سيخلق مزيد من التطور والتغير..  * يتحدثون عن قفزة على المستوى الكتابي في قابل أعمالك.. ما طبيعتها وهل ثمة توبة عن بعض الأخطاء؟  – ليست هناك أخطاء أساساً في العمل الإنساني، لصعوبة تحديد الصواب والخطأ، ومع ذلك استعير مقولة نيتشة أن الخطأ شرط المعرفة، فأن تعرف لا بد أن تخطئ لذا أحياناً تشعر أن هذا النمط أو المنطقة من الكتابة لا تحقق شيئاً تهدف إليه، فتقفز إلى منطقة كتابة أخرى، ولكن يعني ذلك أنك انتقلت من المنطقة الخطأ إلى المنطقة الصواب، أو العكس!! كل ما في الأمر أن مفاهيمك ورؤيتك تجاه العالم والكائنات والأشياء من حولك قد تغيرت، ولا أقول تطورت، بل تغيرت صوب رؤية ما!!  من هنا، أقول إن تجربتي الإبداعية تعرضت إلى توقف شبه قسري لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، منذ منتصف 97م وحتى منتصف 2000م، تخلل ذلك ابتعاثي إلى بريطانيا، وما أن عدت إلى الكتابة عدت بشكل مختلف كما أرى، منذ قصة “أحلام ثقيلة” وما تبعها من قصص نشرت بعضها، وستصدر في مجموعة قصصية عنوانها “لا يوجد مكان لعشاق في هذه المدينة”، وكذلك في روايتي الجديدة “فخاخ الرائحة” التي ستصدر في نيسان/ أبريل المقبل عن دار رياض الريس بمعنى أن ما نشر لي حتى الآن، هو امتداد لتجربة سابقة، لا أقول أنني تجاوزتها، ولكن أشعر أنني استنفذتها، بمعنى أنني لا أهمش تجربتي الأولى، ولكن أرى أنني سأضيف شيئاً مهما، على الأقل بالنسبة لي، وذلك في تجربتي الجديدة. _____________________  جريدة الرياض- الخميس 3محرم1424هـ- 6مارس2004م-عدد12676

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *