سأنتج نصوصاً تشبه القناديل تضيء عتمة العالم

يوليو 28, 2012 | لقاءات | 0 تعليقات

حوار- محمد باوزير  تستحيل رواية “فخاخ الرائحة” للروائي يوسف المحيميد إلى عالم مسكون بالقسوة والفظاظة والجحيم وينتقي لها أبطال مقموعون في مجتمعهم ومسكونون بالخروج منه والانفلات من هذا القدر، فعاشوا سنوات مهدرة ومهانة واتسمت حياتهم بالحرمان ومجللة بالعاهات. “فخاخ الرائحة” قدمت نماذج لكائنات مستكينة جار عليها المجتمع وبطش بها أفرادة من هذا السياق

يطرح يوسف المحيميد في هذه الرواية سلوكاً قاسياً يسكن النفس البشرية وتنتفي منها صفة الرحمة والرأفة وذلك عبر لغة نقية وباذخة نقش بها روايته إلى جانب سبره لأغوار نفسيات أبطاله ليكون من عمله هذا واقعية سحرية لا تملك إلا أن تتغنى بجمال طرحها الأخاذ. المحيميد في حواره ل”ثقافة اليوم” الخميس يطرح جملة من آرائه عن تجربته الإبداعية وينقل مشاعر النقاد والدارسين حينما تعاملوا مع “فخاخ الرائحة” بكل صدق وشجاعة. المحيميد يُدخل الرواية السعودية عصراً جديداً وذلك بإخراجها من نطاق السيرة الذاتية إلى استلهام عوالم مغيبة، متمنياً أن تقام ندوة نقدية تناقش أجواء هذه الرواية وإلى هذا الحوار..   * خروج روايتك “فخاخ الرائحة” هل يعد ضرباً من التحدي، جاءت لتبرهن على مقدرتك السردية وجمال معالجتك لها، بعد أن مزق النقاد بآرائهم باكورتك “لغط موتى”؟؟  – أولا أنا أؤمن بالتحدّي تجاه ذاتي، أؤمن بأسطورتي الذاتية- حسب تعبير كويليو- لذا سأناضل لأجل هذه الأسطورة، حتى لو كانت هذه الأسطورة الذاتية أن أكون خزّافاً أو نجّاراً أو فوتوغرافياً، من هنا أشعر بالتحدي إزاء هدفي المتعلق بالإبداع، قصة ورواية، وسأبذل ما أستطيع لكي أنتج نصوصاً تشبه القناديل، كل قنديل سيضئ بعض عتمة في هذا العالم، أما مقدرتي السردية فإنني أثق بها كثيراً، وأتلاعب في مناطق السرد كما أشاء، وسيجدني القارئ في كل نص في منطقة مباغته، هكذا أتقن أن أظهر كل مرة من مكان معتم، لأضىء. أما رواية “لغط موتى” فمن حسن الحظ، أو سوئه، أنه لم يقاربها ناقد بعد، بمعنى أنها لم تحظ بدراسة نقدية موضوعية جادّة واحدة، أما الإنطباعات الشفاهية فهي تأتيني من هنا وهناك، من مبدع أو ناقد أو دارس، وفي مجملها تشعر بخروج الرواية عن المألوف والعادي، وفي ذلك ضريبة على الأقل في الزمن الراهن، فأن تخرج عن تقاليد وسير القطيع، يعني أنك ستكون في موضع غير مألوف، ويجلب الريبة والشك.   * تحتفي رواية “فخاخ الرائحة” بالشخصية اللامنتمية في المجتمع والتي تأتي على هيئة كائنات مستكينة وهامشية، لماذا جاء اختيارك لهذه الفئة؟؟  – أخشى أن يأتي أحد ويقول أن الشخصيات اللامنتمية هي نتاج مجتمعات أخرى، ولا توجد إلا في دراسات وأفكار”كولن ولسون”، لكنني أقول أن هؤلاء بشر بذرتهم أتت من الواقع اليومي والمعاش، وهم أمام عيني بأي حال، سواء كتفاصيل غامضة ولا مرئية، أو بواقع حاد وشرس وعميق وسهل أن تلمسه بيدك فضلا عن حواسك. أما سؤالك الذي يشير بطريقة أخرى: لم لا تكون شخصياتي من الطبقة الوسطى مثلا، وليست من قاع المجتمع أو هامشه، فأرى أن الحياة متاحة بأحداثها وشخوصها ووقائعها، ما على الروائي إلا أن يلتقط أول خيط الشخصية، ثم يبدأ الحفر في أعماقها بأدواته ووسائله الخاصة. وقد اخترت هذه الشخصيات لأنها اختارتني، اصطدمت بي ذات ظهيرة وأنا أتجوّل بحثاً عن طعام، فلم أستطع فكاكاً منها، كلما دخلت سوقاً أو درباً ضيّقاً أو ظلمة صادفتني ونثرت أمامي بعض حزن وشكوى، وحين بدأت الكتابة صرت أنا الذي أبحث عنها، وأطاردها في الطرقات، وأقلب أيامها وأحزانها بين يديّ.  * يعيش بطلا الرواية (طراد/توفيق) أزمات وانكسارات وإحباطات متعددة تشي بأنهما مأزومين ومحاطين بمجتمع يفتقر إلى الرحمة وجبل على افتراس الطيبين، هل تريد أن تصل إلى تقاطع وهو أن الحرية التي يمثلها طراد، والعبودية التي يمثلها توفيق تشتركان معاً في الإخفاق؟؟  – هي كذلك، بل أن الحريّة أحيانا تكون مجرد وهم كبير، فلم تكن الصحراء باتساعها ورحابتها وحرّيتها سوى سجن كبير قاتم ومظلم وقاتل، ألم تقرأ فصل “سجناء الرمال”- بالمناسبة كان أحد خيارات عناوين الرواية- ففي هذا الفصل تحوّلت الصحراء الرحبة والفسيحة إلى سجن، كذلك الأمر لشخصية توفيق، الذي أصبحت الغابة بكل طقوسها وفضاءاتها مجرد فخ ومؤامرة، تماما كما هو البحر الذي تحوّل بدورة إلى شاهد صامت ومتواطئ على القمع والإستلاب. ما أريد قوله أن هذا التقاطع بين حرية مزعومة، وعبودية مقننة، إنما هي نتاج بشري، يمكن بأي حال تجاوزها، وتجاوز إخفاقها، ولكن هاهي إحدى الشخصيات وقد فتح لها العالم كاملا، فلم تستطع أن تتخذ قرارا طبيعيا يتعامل مع حرّية مؤقتة، فلجأ إلى عبودية من نوع آخر، أعني أنها إدمان العبودية والخنوع، التي تقابل حرية الوهم في صورة أخرى.

 * يلحظ قارئ الرواية أن الكاتب اعتمد في رصدها على كثير من المدونات التاريخية والنقولات الشفهية والنظريات الاجتماعية والدراسات النفسية حتى خرج إلى الناس بهذه الرواية، ما مدى صحة هذه المقولة؟؟  – نعم إلى حد بعيد، ولكن- يا محمد- لن أسهب في الإجابة على هذا السؤال، صحيح أنني تحدثت معك- هاتفياً- عن بعض التفاصيل، وملابسات كتابة “فخاخ الرائحة” والأدوات التي استخدمتها وراهنت عليها، وبالطبع أظن أن مجرّد شعور القارئ أنني لجأت إلى بعض المدوّنات والوثائق فإن ذلك سيصيب العمل بالفشل بصورة أو أخرى، لأنه سيدخل في أفق الصنعة والتكلف، ولكن رواية “فخاخ الرائحة” إلى الآن تحقق نجاحاً رائعاً على مستوى القراءة، وكثير ممن أمسك بغلافها الأول لم يملك أن يدعها حتى يصل النقطة الأخيرة، وهذا يعني تحقيقها للجانب المتعوي والتشويقي، وهو أحد عناصر نجاح أي عمل روائي على مستوى القراء العاديين، مما يعني بشكل أو آخر، أن الرواية لا تعاني جفافاً معرفياً أو معلوماتياً مثلا، فقد استفدت من النقولات الشفهية والوثائق التاريخية بالمقدار الذي يدعم ويضيف إلى نصي الروائي، بمعنى أنها أصبحت عنصراً مساعداً لتكوين الشخصيات، ونضد الوقائع والأحداث، لا كعنصر تحنيط للشخصيات أو جعلها ورقية.

* إحتفاؤك بالأسطورة (القمر وابنة العطار) على حساب السياسي، ألا تراه لا يعطي تناسقاً متكاملا للعمل الروائي؟؟  – من الطبيعي أن لا يتحوّل العمل الروائي إلى مجرّد بيان سياسي أو اجتماعي، بل هو فن يستلهم الواقع ويتجاوزه، يستلم الأسطوره ويحرّكها، يخلق من السياسة وتداعياتها ظلالا له، دائماً أشعر بضرورة ألا تفقد الرواية ملامحها كونها فنّاً بالدرجة الأولى، ذلك الفن السردي الذي يستقي الشعر والمسرح والدراما والسينما، ويضئ عبر السياسي والاجتماعي فقط مناطق معتمة في ملامح الشخصية وتحولاتها وتشوّفاتها. دعني أتحدّث عن هذا البعد السياسي في روايتي الجديدة التي أتناول فيها حياة امرأة تتعرض إلى خداع على أكثر من مستوى أثناء حرب الخليج الثانية 90م، لم أجعل من واقعة الحرب بطلا لنصي الروائي الجديد، بل جعلت منها مجرّد ظلال، هذه الظلال المعتمة قد تسلب من البطلة بعض حياتها ومستقبلها، وهذا ما يهمني من الواقعة السياسية والاجتماعية، أي بما تتركه من أثر فادح على المستوى الإنساني، ولا يقع عليّ تحليل الحرب ودوافعها ونتائجها، لأن ذلك دور المحللين السياسيين والاقتصاديين وغيرهم، فالرواية فن واستشراف ورؤى تتغذى من الشعر والفلسفة والحكمة والحكاية، بأدوات اللغة الفنية المناسبة والفنون البصرية وفهم الزمن بسمته الفوضوية وليس التراتبية النمطية.   * كان من المفترض ألا تختزل روايتك “فخاخ الرائحة” في 120 صفحة لأن مادتها خصبة تساعدك على الإبحار في عوالمها لتكون “الرواية النهر” ألا ترى ذلك؟؟  – من المفترض أن تموت الشخصية الفلانية، ومن المفترض أن تهاجر وتتغلب على عجزها، ومن الممكن أن تتوسع في تقديم الشخصيات، أظن أن العمل الإبداعي نتاج إنساني يصعب الإتفاق حوله، وهذا سرّ فتنته وجماله. فمن الممكن أن تكون الرواية في حدود 120 صفحة، وممكن أيضاً أن تكون في حدود 500 صفحة أو أكثر، أدرك ذلك تماماً، ولكنني كنت أمام عدد من الخيارات والأسئلة، ماذ سأضيف بهذه الخمسمائة صفحة، هل ستكون الرواية النهر، هل سأعمل على بعض الشخصيات الثانوية، لتصبح أكثر حضوراً، هل سأستقصي المزيد من طفولات شخصياتي الرئيسية الثلاث، وبعد ذلك هل ستبقى الرواية بذات النكهة؟؟ أقصد هل ستحافظ على تماسكها ومتعتها وفتنتها؟؟ أم أنني سأطرح رواية طويلة تجلب السأم والملل؟؟ أصدقك القول أن هناك من قال لي أنها نواة عمل ملحمي ضخم ومهم للغاية على مستوى الرواية العربية، كالروائي العراقي محسن الرملي، الذي قارنها بالمأزق ذاته الذي تعرضت له روايته “الفتيت المبعثر” كونها رواية نواة، قد تتحوّل إلى رواية نهر. شخصياً لا أشعر بذلك، لأنه يعتمد عما يمكن إضافته، متى تسترسل كروائي وكسارد، ومتى تتوقف وتنقل إلى موضع آخر وشخصية أخرى، خصوصاً أنني كنت أراهن على جانب المتعة، أن أشد القارئ من الصفحة الأولى، وحتى آخر نقطة، وهذا ما نجحت فيه بشهادات كل من قرأ الرواية، وأشاد بها كتابة أو محادثة.

 * نالت “فخاخ الرائحة” شهادات من النقاد العرب، فحظيت بدراسات مكثفة من (عبدالعزيز المقالح، جورج جحا، مودي بيطار، سيمون نصار، نبيل سليمان، ياسين رفاعية) هل هذه الشهادات تغريك في الإبحار نحو السرد أكثر، ثم ماذاعن نقادنا المحليين هل عين السخط تبدي المساوئ؟؟  – ماذ تريد- يا محمد- أن أقول؟؟ هل تريد أن أقول مثل غيري، أن النقاد مشغولين بالنظرية، عن النقد التطبيقي؟؟ هل أقول أن النقاد مشغولين بقراءة الآخر وإبداع الآخر وتجربة الآخر للمشاركة بورقة نقدية تطبيقية مذعنة لشروط الآخر؟؟ هل أقول أن هناك مسمى نقدي جديد، ليس النقد النظري، ولا النقد التطبيقي، ولا النقد التطبيقي النسوي، إنما النقد الرسمي، الذي يطرحنا في الخارج ككائنات آتية من القمر، كي نقول للعالم عن مسيرتنا الثقافية؟؟ أبداً لن أقول لك شيئا من ذلك، ولا أنتظر شيئاً من النقد المحلي، ولا من تصنيفاته البائسة التي لا تضيف شيئاً لتجربتي الروائية والقصصية، ولا أريد أن أتهم النقد المحلي كي لا يقال أنني أنتظر دراسة نقدية تثبت مشروعية ما أكتب، أبداً- يلسيدي- لا أبحث أساساً عن مجد زائف، ولا عن حضور يسلبني من بهاء الظل والهامش، ألم تر كيف وضعت كائنات “فخاخ الرائحة” أمام الضوء والمجهر والبؤرة، وقد كانت هامشاً وقاعاً، لا أعرف إن كنت انتشلتها من القاع ووضعتها أمامكم وأمام القراء، أم أنني أنزلتكم معي بضع ساعات لتروا وتشهدوا معي القاع والهامش والمهل. بكل صدق يكفي أن تصلني انطباعات الخارج، ودراسات نقدية مكتوبة في صحف عربية وأخرى مهاجرة، ولعل الأجمل أيضاً هو ما لايظهر في الصحف، وأعني بذلك ما يصلني باستمرار عبر بريدي الإليكتروني من المشرق العربي، أو من المغرب العربي، يكفي ما يصلني من بهجة وفرح بكل ما أكتب، ودراسات منشورة عن ما أنجزته في صحف لا أعرف منها سوى أسمائها، هذا الأمر يجعلني أكتب بثقة أكبر. ورغم ذلك أجد من الظلم أن نغفل دراسات الداخل عن الرواية، كدراسة الناقد د.عالي القرشي، وعبدالله السفر، وأحمد زين، وتركي الماضي، وكتابة الشاعر أحمد الواصل في جزئيها، التي استطاع بها أن يلامس مناطق مخبوءة في النص، لم يصل إليها غيره ممن كتب عن “فخاخ الرائحة” مما يكشف أن الكتابة والدراسة والنقد قد تتجاوز النقاد المكرسين والمعروفين إلى غيرهم ممن يغريهم النص ويبهرهم.   جريدة الرياض- عدد12960 في 18ديسمبر2003م  

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *