(1)
حين ماتت جدَّتي لأمي كانت أمي في خريفها السادس، فلم تحزن أو تبكي، بل ظلَّت تهجس بطفولة قانطة: كي ستواجه النمل؟. أمي الطفلة آنذاك كانت تشعر أن النمل الأسود سيهاجمها في ليل القرية! وسيأكلها!.
لا أعرف كيف خالجني شعور أمي وأنا أجلس مقرفصاً على بلاط مغسلة الموتى في جامع الونيان ببريدة،
إذ انتبهت إلى أن النمل يسعى بضراوة على البلاط النظيف، وكأنه سيهاجمني أو سيهاجم أبي المسجّى على مصطبة الجنائز، مستسلماً ليدي أبي سليمان المباركتين، وهما تدعكانه بعنف، كان مخلصاً في غسل جسد أبي، وكنت أود أن أقول له كل فينة: ارفق بجسد أبي!.
كان أبو سليمان غاسل الموتى يتنقَّل في أرجاء المغسلة بخفَّة الفراشات، يتحرّك جسده باعتياد وألفة، تمتد يده اليسرى إلى محبس الماء الأحمر، فتحرره، بينما يده اليمنى تمسك أنبوب الماء البلاستيكي، فيندفع الماء نحو صدر أبي العاري، فأرى جفنيّ أبي ترعشان فجأة، حتى أكاد أن أقول للمغسل، ولإبنيّ عميَّ: عبدالرحمن ومحمد: توقفوا، أبي لم يمت!. كم مرة قرأت في الصحف أن ميتاً دبَّت به الحياة قبيل وضعه في القبر، أو في التابوت! كنت أحس أن أبي سيتنفَّس بغتة، ونعود به إلى البيت، ليوجهني وأخوتي: البرحيَّة وعسيلة في طرف البستان لا تباع!. وأقول مداعباً أبي: أمرك، ولا يهمك، لو نبيع أحد الاخوان ولا نبيع نخلة!.
بالإشارات الحاسمة يأمر أبو سليمان العامل الأندونيسي ذا اللحية الخفيفة بتجهيز السدر، فيسكب الماء في سطل بلاستيكي أزرق حتى ثلثيه، ثم يخلط السدر بالماء، حتى يصبح الماء أخضر برائحة نفاذة، يغرف أبو سليمان بيده ويسكب على جسد أبي، ثم يدعكه باليد الأخرى الملفوفة بقطعة خام أبيض، كان المغسل يغمض عينيه وهو يدعك بشدَّه، كان حريصاً على ألا تظهر عورة أبي المخفورة بقطعة سماط بنِّي ثقيل! كم كان الساعات ثقيلة وبطيئة ومرَّة في نهار بريدة الحار!.
(2)
في الصباح الباكر كانت شوارع “بريدة” يقظة، فلاحون بشمغهم منسوفة الأطراف على رؤوسهم يقودون سياراتهم الوانيت، مزدانة بالخضار وأعذاق البلح والبطيخ، إلى “الجردة”، سودانيون يقودون سيارات النقل الكبيرة إلى السوق، وصبية يدلفون بيوتهم حاملين فوق أيديهم الخبز الساخن، موظفون يقفون عند الإشارات ويتثاءبون، في الطريق إلى ثلاجة المستشفى كان الناس كلهم يشعلون صباحهم باليقظة، وأبي لم يزل نائماً في صقيع الثلاجة!. لم تكن أبي تنام هكذا، كنت تنام كالطير، تغفو في رحلات البرِّ مسترخياً على فراشك المربوط، ثم تفزّ كطائر لا يكفّ عن تأمل الفضاء! ما زلت أذكر سقوطك الأول قبل سنوات إثر جلطة غادرة، وقد جئتك في المشفى بجسد ذهب نصفه، كنت طوال الوقت تنظر في النافذة، ترفع جذعك الأعلى مثل نسر، وتحملق في سماء النافذة، أقسم يا أبي أنني عرفت آنذاك أنك كنت تريد أن تصطفق بجناحيك الحرَّين في السماء!.
ما الذي جعلك إذن تنام بكسل صباح الأربعاء!.
كنت أسأل نفسي بحرقة، كيف لأب حرٍّ لا يملّ من التجوال والركض في مسافات الخلاء أن ينام حتى التاسعة صباحا! كيف لا تحرقه ظهيرة آب! وأي ظهيرة وهو في عروق الرمل، وفي حمأة القيظ، يأمرني أن أبحث عن الرمث وجذوع الغضا كي يشعل ناراً! فأسأله: ألا تكفي جمرة القيظ يا أبي؟ ليقول لي جملته المعهودة: رائحة الحطب ما تتغير لا صيف ولا شتاء!.
لم يكن أبي صباح الأربعاء المرّ يشعر بوطأة الصيف، كان نائماً بدعة، كطفل وديع ومستسلم، داخل الصندوق رقم ثمانية في ثلاجة الموتى!.
(3)
منذ الليل، كانت أختي التي تكبرني، توصي زوجها بأنها ستودِّع أبي في الثلاجة، طلبت منه أن يقنعها لتكف عن الذهاب إلى الثلاجة، لكنها سبقتنا هناك، كانت تنتظر في السيارة عند باب الثلاجة الموصد، دخلنا جميعا، أنا وأبناء عمومتي والمغسل أبو سليمان إلى الثلاجة، كانت الصناديق ذات المجارير مرقّمة، الرقم ثمانية أمامنا، سحبه أبو سليمان بمقبضه، وارتجفتُ لحظة أن رأيت الجثمان ملفوفاً بالقماش، وملصقاً على أطرافه رقم ملف أبي في المستشفى، بحركة سريعة ومدرَّبة حلَّ المغسل طرف القماش المعقود، فرأيت وأنا على بعد ثلاث خطوات شعيرات رأس أبي البيضاء، ووجهه المضيء، اقتربت من جبيه كعادتي وقبَّلته، كنت أتوقع أن ينتبه: يبه! قلت في سرِّي، لكنه كان نائماً بعمق!.
فتحتُ باب السيارة، ونزلت أختي، كانت خطوتها مرتبكة بعض الشيء، كنت أمسك بيدها الباردة، وحين دلفنا ممر الثلاجة، كانت أختي تهلل بتنهيدة عميقة، حين اقتربت من وجه أبي انحنت وانهمرت تقبِّله من كل الجهات، تلثمه من جبينه وخدِّه وأنفه ولحيته، لا أعرف كيف واتتها كل هذه الجرأة إذ تقبِّل جثماناً، لكنني كنت أجزم أنها كانت مثلي، تظن أنما كان أبي نائماً! كدت أرفعها عن وجه أبي، لكن زوجها ابن عمِّي أشار بأن أتركها ترتوي من تقبيل وجهه المشرق في صباح دبق وحار. بعد أن أمسكت بيدها لأعود بها إلى السيارة، لم أستطع أن أوقف رجفة يدها، كانت ترتجف بقوة، وكنت أبكي بعبرات مخنوقة!.
(4)
في مغسلة الموتى لم تبرح يدي جيبي، متحسساً دهن العود الذي يفضِّله أبي، كما حرَّصتني زوجة أبي، بأن أطيِّبه. بعد أن نقلوا الجثمان مغسولاً إلى مصطبة أخرى، فوق خام الكفن، المفرود فوقه قطن ليِّن، ومنثور فوقه النشادر برائحته النفاذة، ثنى أبو سليمان الخام من جانبيه على الجثمان، وتناول منِّي قارورة دهن العود الصغيرة، ومسح بها على وجه أبي، فأخذ ابن عمِّي مشطاً فوق الطاولة، ومشط لحية أبي، ثم صبغت أصابعي بدهن العود ومسحت عارضي أبي وجبينه، تقدم أخوتي تباعاً يقبِّلون رأسه، وكأنما كان جالساً بعد صلاة عيد، كنت لم أزل واهماً، سائلاً نفسي: لقد ارتفعت الشمس، فمتى سيستيقظ أبي؟. لكن كلمة أبي سليمان بأن نودِّع أبي قبل أن يلفّ عليه الكفن أرعبتي، فجأة ضجَّ البكاء فيَّ وارتجف قلبي الضعيف. آه يا أبي، لم غرَّرت بنا جميعاً وأحسستنا أنك كنت مجرد نائم بهدوء!.
قاومت انهياري، وقابلت أبا سليمان حول المصطبة وصرت أناولة حزائم الكفن، وهو يشدُّ الوثاق حول جثمان أبي، ثم أمر الأندونيسي بأن يحضر بخوراً، فاشتعل البخور من أسفل المصطبة، وبدَّل المغسِّل قميصه ومضى.
(5)
وقد تحلَّقنا حول النعش في سيارة نقل الجنائز همس في أذني: حين نصل المقبرة، سيصلِّي عليه الذين لم يحضروا صلاة الجامع، وسأهبط في أقرب قبر، انتبه لذلك وانزل معي قبل الآخرين! في القبر نزل ابن عمِّي عبدالرحمن، ونزلت معه سريعاً بعد أن عقدت ثوبي إلى منتصفي، ونسفت شماغي على رأسي، ناولونا جثمان أبي، وأنزلناه بهدوء وسكينة، حتى اللحد، كان جسده خفيفاً مثل طير، كان ينظر صوب القبلة، كما لو أنه سيطير إلى مكة، حيث تعلَّق قلبه في البيت العتيق، كما لو كان سيصير حمامة تطير بسلام وتحطُّ على رخام أبيض بارد في صحن الحرم.
وضعنا الطوب في وضع طولي على فتحة اللحد، كنت كلما وضعت طوبة شعرت أن النمل الأسود يقترب منِّي أكثر ويهيئ أسنانه المشرعة، اختلف الرجال مع ابن عمِّي حول وضع الطوبة الأخيرة، كنت أحلم أن يستمر اختلافهم طويلاً، حتى لا يغيب أبي إلى الأبد!.
مدَّ أحدهم يده وانتشلني من القبر وأهالوا التراب على أبي: اللهم ثبِّته! كانت الأصوات تعلوا: أدعوا له بالثبات! أخذوني تحت سقيفة قرب القبر، وبدأت أتلقى العزاء، وانتبهت إلى أنني صرت الآن بلا أب!.
(6)
تعال يا أبي قليلاً، ليوم أو بضع يوم، وسنصحبك إلى نفود ” قبه” أو عروق الرمل في الصمَّان، تعال وسنشعل نار الارطى في وهج القيظ، ستقتحم بسيارتك، كما فرس أصيل، الرملَ الذي تعشقه، سنتجوَّل في البيداء مثل بدو رحل، ستقتفي العشب الربيعي حتى لا أحد يدرك إن كنت تتبع العشب أم هو الذي يتبعك! سنتفقد معك “الصداوي” شبراً شبراً، وسنجمع الكمأ واحدة واحدة!.
تعال يا أبي قليلاً، وسأبهِّر قهوتك المرَّة التي تبسط خاطرك، وسننصت إليك في ليل النفود، وسنستيقظ على صوت آذانك فجر البرِّية، وغليان الماء في الإبريق الكبير المسودّ، بل أعدك يا أبي أننا سننهض مع كل عود ثقاب تشعله طوال الليل لترى ساعة يدك في الظلام، وقد بلغ بك الملل أقصاه، وأنت تنتظر ضوء الفجر!.
فقط تعال قليلاً، ليوم أو بضع يوم! تعال وأسمعني “الهجيني” المنساب من أعماق روحك، وهو يختلط بهدير محرِّك السيارة في الطريق الطويل إلى الحجاز! تعال وامسك بيدي طفلاً دالفاً بي سوق “المقيبرة”، أو تعال لأمسك يدك وأنت معصوب العينين، خارجين من عيادة الدكتور “غوري” في شارع الخزان!.
فقط تعال قليلاً، ليوم أو بضع يوم، قبل أن تبيضَّ عينيَّ!.
0 تعليق