الرواية في جزيرة الشعر

يوليو 28, 2012 | مقالات اجتماعية | 0 تعليقات

حينما طلب منِّي الأصدقاء في مجلة حقول كتابة شهادة حول (السرد في جزيرة الشعر) والذي يساءل أو يحاكم هذا الحضور الطاغي للرواية في الجزيرة العربية، والالتفات إليها كجنس إبداعي مقابل خفوت الاهتمام بالشعر، ولعل اهمية التساؤل جاءت لكون جزيرة العرب هي موطن الشعر، خصوصاً الشعر العمودي، فما الذي جعل هذا اللقيط، أعني الرواية حسب رؤاهم، يستحوذ على

المنابر الصحفية، والاهتمام الأعلامي المحلي والعربي؟ سأجيب على ذلك بعيداً عن الإجابات الحدّية والحاسمة والقطعية، كما لو كنت أندريه بروتون في “بيان السوريالية” وقت أن وصف الرواية بأنها “جنس أدبي هابط” دون أن يتوقع ماذا سيأتي بعد تجربة بالزاك الروائية. قبل الإجابة على هكذا تساؤل، أريد أن أعرض سريعاً تحولات النص السردي لديّ، بدءاً من “ظهيرة لا مشاة لها” وانتهاءً بـ”القارورة”، ففي البدء كتبت القصة القصيرة بنمطها البسيط الخاطف، إعتماداً على المشهد البصري الحركي غالباً، دون استثمار تقنيات متنوِّعة وغنيّة مستخدمة في السرد القصصي العربي والعالمي، ثم بدأت أعتني باللغة، ليس من خلال شعرنتها، بل عبر تقشّفها وتكثيفها مع تقنيَّة المسح البصري المنتقى بعناية، فضلاً عن التفكير بجملة النص كوحدة لغوية متكاملة، وليس كجمل متقطعة، وذلك من حيث مطلع النص القصصي وتناميه وخاتمته، هذا الأمر أصبح أكثر وضوحاً في المجموعة القصصية “رجفة أثوابهم البيض”، حتى بلغ تتويج اللغة فنِّياً أقصاه في نصوص “لابد أن أحداً حرَّك الكراسة” التي تبناها الناشر اللبناني “دار الجديد” كمجموعة شعرية، ووصفني كشاعر من العربية السعودية، بسبب تقاطع النصوص مع قصيدة النثر بشكل كبير لدرجة أن كُتبت عنها دراسات نقدية متنوعة كمجموعة شعرية. بعد ذلك بدأتُ كتابة الرواية عام 95م، ودخلت عالمها آنذاك متلبساً بالشعر، غارقاً في تجارب “سليم بركات” و”إدوار الخراط”، قلقاً بالأسئلة الفنية والوجودية، فأي لعبة روائية أتخذ؟ وأي شخوص أبتكر؟ وداخل أي إطار سأضع هؤلاء؟ وبأي لغة؟ فجاءت رواية “لغط موتى” كنمط مختلف عن الرواية التقليدية المعروفة، إذ كانت مكتوبة عن فن الرواية ومأزق الروائي وأزمته، فجاءت بنمط الميتارواية، لكن شعوري أن النمط الروائي أكثر الفنون الأبداعية قدرة على استثمار وتوظيف غيره من الأجناس والأنوع، كالشعر والمسرح والسينما والفنون البصرية كلها، جعلني أفتح النص على تنويعات ورؤى جديدة في “فخاخ الرائحة” و”القارورة”، بمعنى أن التحولات في نصِّي هي نتيجة قلق وأسئلة وبحث دائم. أعود إلى التساؤل عن قوة حضور الرواية لدينا، مقابل تراجع الشعر، فأرى أن ذلك يعود إلى انفتاح الرواية على الفنون الأخرى، وقدرتها على المغامرة والدخول في مناطق وعرة ومسكوت عنها، على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، مع القدرة على الوصول إلى قلب وذهن القارئ بقوة، خلافاً للشعر الذي توقف معظمه، خصوصاً في قصيدة التفعيلة، عن مقترحات جمالية جديدة، فضلا عن نمطية الرؤى والأفكار فيها، رغم محاولات قصيدة النثر على الدخول في مناطق جديدة في استثمار اليومي وتكريس الصور المحسوسة بديلا للصور الذهنية، وتوظيف الحكائي أحياناً، إلا أن القصيدة إجمالاً لم تزل بحاجة إلى من يربك تركيبتها وبنائها ومضمونها السائد، لم تزل بحاجة إلى إشاعة فوضى جمالية ورؤيوية في داخلها، لم تزل بحاجة إلى ألن جنيس بيرج آخر، وقصيدة “عواء” أخرى، على المستوى العربي، كي تنفض خمولها ورتابتها. إضافة إلى ذلك، نجد أن الاهتمام الكبير بالرواية لا يوجد لدينا في الداخل فحسب، ولا على المستوى العربي، بل حتى على مستوى العالم، ولو راجعنا خريطة الإبداع العربي خلال العشرين عاماً، لوجدنا أن ثمَّة شعراء تحوَّلوا إلى كتابة الرواية، والتجريب فيها، كسليم بركات وإبراهيم نصرالله وسعدي يوسف وممدوح عدوان وغازي القصيبي وعلي الدميني وغيرهم. هذا الأمر يعني إحساس هؤلاء أن الزمن الآن هو زمن الرواية حسب وصف الناقد د. جابر عصفور. بل أن الجوائز التي تلفت الانتباه في العالم هي جوائز الرواية، الأمر الذي جعل معظم الفائزين في جائزة نوبل في السنوات الأخيرة هم من الروائيين العالميين. كما امتد المأزق الذي يعاني منه الشعر إلى المبيعات وبالتالي إلى النشر، فمعظم الناشرين في العالم لم يعد يرحب بطباعة الشعر، مما تطلب تدخَّل جهات متبرعة وإنشاء صناديق لدعم طباعة الشعر، وتنظيم مهرجانات له، وهذا الأمر حسب رأيي يمثل أزمة على مستوى العالم، فكثير من الدواوين الشعرية في العالم العربي تطبع مرة واحدة، باستثناء أعمال الفلسطيني محمود درويش، لكونه-كما أرى- قلقاً ومتجدّداً ومتسائلاً حول ذاته وهويَّته وباحثاً في الشعر والتاريخ والأساطير ودؤوباً في اشتغاله. أما الشعر المحلي فحتى الآن لم يتشكل لدينا اسم شعري أو قامة شعرية عبر تجربة متراكمة ودؤوبة، كتجربة درويش في فلسطين وسعدي في العراق وأدونيس في سوريا وعباس بيضون في لبنان وقاسم حدّاد في البحرين أو سيف الرحبي في عمان، صحيح أن لدينا أسماء قدمت أعمالاً شعرية لافتة، لكنها قدمت عملاً أو عملين ثم توقفت، وبعضها عادت، لكنها تكرِّر نصها الشعري ذاته المكتوب قبل عشرين عاماً، إن لم يكن أقل مستوى فنياً، ما أريد قوله أن التجارب تبنى بالعمل والدأب والبحث دون كلل والصرامة في الاشتغال على الأدوات الفنية، وليس بالأحلام والأماني والأوهام أحيانا. بالنسبة للرواية كما أرى، لم تزل في بداياتها لدينا، ففي التسعينات انطلقت الرواية بكثافة وتنويع وتباين في التجارب، بعد إرهاصات الراحل عبدالعزيز مشري، ومن ثم اشتغال القصيبي والحمد ودخولهما مناطق المسكوت عنه، وهذه المسألة لوحدها، أعني اختراق التابو، لا تكفي بالطبع، لكنها كما أتصوّر كانت مرحلة طبيعية ومهمة، سيدعمها وعي فني جمالي في المستقبل، وستتشكل معه تجارب روائية لافتة يمكن أن توازي وتتفوق على كثير من التجارب العربية. ولا أظن أنه يضير الرواية أن يدخل أفلاكها وفضائها رؤساء ووزراء ووجهاء وأطباء وعلماء وصحافيون وغيرهم، فهي الآن الخطاب الإبداعي الأهم، والأسرع وصولاً إلى الشهرة، ولكن كتابة الرواية كمشروع تتطلب فهم آليات وأركان هذا الشكل من الإبداع، فلا يكفي أن نملك خبرات شخصية وتجارب حياتية فقط لنصبح روائيين، وإلا لتحولت كل سيرة ذاتية إلى رواية. أخيراً لم أزل أتذكَّر كلمة الروائي نجيب محفوظ التي ألقيت نيابة عنه في الملتقى الثالث للرواية في القاهرة قبل أشهر، حينما طالب أن يقام في القاهرة ملتقى للشعر بحجم وضخامة وأهمية ملتقى الرواية، بما يكشف أن ازدهار جنس إبداعي ما، هو بالضرورة داعم ومحفِّز للجنس الإبداعي الآخر، إذ الفنون تتداخل وتتماهى ويدعم بعضها بعضا، أتمنى بكل حب ألا تدخل الرواية والشعر في صراع وتناحر تذكيه الصحافة السيارة، يدخل بعده الشعراء والروائيون في خلافات ساذجة وسطحية، على طريقة مشجعي الأندية الرياضية، وإنما علينا أن نقرأ ونفهم جيداً ونناقش التجارب والنصوص، لا الأشخاص الذين أنتجوا هذه النصوص.  ــــــــــــــــــــــــــ  شهادة تم نشرها في مجلة حقول- العدد الثاني

 

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *