في طفولتي كنت طفلاً كثير الآفات والأمراض، ولأنني جئت بعد سبع بنات، لم يبق منهن سوى أربع، فإنني نعمت بحظوة لدى أمي، لأنني ولد أولا، وثانياً لأنني شارفت على الموت مرات ومرات. في هذه الظروف بدأت علاقتي المبكرة مع الكتاب، إذ كان شفائي الوحيد هو جرعة عاجلة من قصص المكتبة الخضراء، التي تصدرها دار المعارف بمصر، لذا بحثتُ مع الأمير عن حذاء
«سندريلا»، وحلمت آنذاك بـ«القدّاحة العجيبة» و«الأميرة الحسناء» وغيرها. بعد ذلك دخلت في مرحلة الهوس بقصص الملاحم والأساطير، فكانت «المكتبة العربية» في شارع الشميسي الجديد، قرب المستشفى المركزي، هي ساحة العراك مع «عنترة بن شدّاد» و«الزير سالم» و«سيف بن ذي يزن»، علما أن الأسطورة الأخيرة لم أعرف نهايتها حتى الآن، إذ اقتنيتها مستعملة، وممزقة النهاية، فلم أعرف نهايتها الحقيقية، لكنني وضعت لها في مخيلتي عدة نهايات محتملة، ومن هنا اشتعلت المخيلة، وبدأت الكتابة المبكرة، تلك الكتابة الساذجة عن أساطير موازية لما قرأته. كانت أمي بما يتوفر لها من نقود قليلة، وأختاي اللتان تكبرانني، هما من ساهم في ولعي المبكر بالكتاب، حتى أن أبناء عمّي الذين يكبرونني، كلما وجدوا كتابا مرميا في خراب أو نفاية، يتسابقون به نحوي، إذ عرفوا أنني تحولت إلى دودة مصابة، غذاؤها الوحيد هو التهام الورق تباعا. أعود إلى كثير من الكتب، لعل من بينها «تقرير إلى غريكو» و«المسيح يصلب من جديد» و«زوربا» لكازنتزاكي، و«عالم صوفي» لغوستاين غاردر، و«الأساطير الشعبية» للجهيمان، ومعظم كتب النفري وابن عربي وهادي العلوي ومحمد أركون وعبد الرحمن بدوي، إضافة إلى ترددي المستمر على كثير من الموسوعات والمعاجم. ولعل من بين الكتب التي دعمت تجربتي القصصية تجربة محمد البساطي، وجميل حتمل، وإبراهيم أصلان، وجار الله الحميد، وإبراهيم صموئيل وفوكنر وغابرييل غارسيا ماركيز وبورخيس وغيرهم. أما في الرواية فقد أذهلتني تجربة ماركيز، وجورج أمادو، وكونديرا، وبول أوستر، وباتريك زوسكيند، وكاواباتا، وباولو كويلهو. كما أحببت روايات هدى بركات، والبساطي، وبعض أعمال ربيع جابر، ورشيد الضعيف. ولعل قراءاتي الشعرية ذات دور مؤثر في كتاباتي عموما، خصوصا قراءاتي لأعمال يانيس ريتسوس، وجاك بريفير، وفرناندو بيسوا، وسركون بولص، ووديع سعادة، وعباس بيضون وغيرهم. لم تزل علاقتي بالكتاب محفوفة بالدهشة، ما زلت أمسك بالكتاب بين يديّ وكأنني ابن السادسة، أبحث عن الكنز بين السطور، وأترصد للجنّيات اللواتي يحولن الناس إلى أحجار أو ضفادع، وأدهش ممن يحوّل العادي واليومي والمألوف إلى ما هو خارق ومتجاوز، عبر رؤى جديدة ومبتكرة. لم أنشغل بالوسائط الحديثة عن الكتاب، فهي ليست بدائل، والكتاب لم ينهزم أمامها، بل كانت عوامل مساعدة في ترويجه والتسويق له، فلم تنهزم السينما ولا الإذاعة أمام التلفزيون، ولم تسقط صحافة الورق أمام الصحافة الإلكترونية، ولا الكتاب سينهزم أمام الكتاب الإلكتروني أو الإنترنت. جريدة الشرق الأوسط- الاحـد 24 شـوال 1423 هـ 29 ديسمبر 2002 العدد 8797
0 تعليق