أن تكون كاتباً، ولديك كتاب ستنشره فعليك أن تحمل عمرك وأوراقك وتغادر إلى بيروت أو القاهرة وتطبعه هناك! وأن تكون قارئاً نهماً ومتابعاً فعليك أيضاً أن تطير بنعل من ريح إلى العواصم العربية كي تقتني كتاباً تقرأ نصفه في الطائرة ولا تعرف أن كان الحظ ومزاج الرقيب سيخدمك لتكمله في الرياض أم لا! أن تكون صحفياً مغامراً ومحبَّاً للجديد، ولديك طموح بأن تصدر مطبوعة ما، فعليك أن
تفتِّش عن “قبرص” أو “لندن” كي تلتهم أموالك القليلة مقابل رسوم ترخيص مطبوعة شهرية أو أسبوعية، ثلاث أرباع مادتها التحريرية عن “هنا” لكنها يجب أن تصدر “هناك” وتطبع في “هناك” أخرى، كبيروت أو ما شابه، وتترك الحظ أيضاً لها في أن تدخل “هنا” وتباع، مالم تتعثر عينا الرقيب على ساق أو كتف عار، وكأن الفضاء المرئي محتشماً إلى هذا الحد! أن تكون ثرياً ومحبَّاً للأدب والثقافة، وهي حالة نادرة، لكنها تحدث بمعدل 1 من كل1000ثري، وتود أن تؤسس جائزة تخدم وتشجِّع بها الثقافة والإبداع فعليك أن تبحث عن مقر لها “هناك”، في القاهرة أو بيروت، وتكوِّن لها لجان من “هناك” حتى يعترف بها الـ “هناك”، وكأن الـ “هنا” لا علاقة له بشيء، ولا يستحق أصلاً شيء! أن تكون مسرحيَّاً، سواء ممثلاً أو مخرجاً أو كاتباً، وتود أن تقدِّم مسرحية ما، فعليك أن تضع عينك على مهرجانات المسرح “هناك”، وأن تتكبَّد العناء في سفر فريقك المسرحي، من أجل أن تقول للسيد “هناك” نحن لدينا مسرح أيضاً! أنظروا هؤلاء الممثلين والفنانين! وقبل كل ذلك لابد أن تكون مسرحيتك ترضي الأخ “هنا” بدءاً من حارس المسرح وحتى مديره والمتحكم فيه منذ أربعين عاماً! أن تكون مغنِّياً أو مطرباً، فعليك أن تبحث في الصيف عن متعهد حفلات “هناك” كي ينظم لك حفلاً يلتهم ثلاثة أرباع دخله، علماً أن دخله جاء من السادة “هنا” الذين يسافرون كي يحضرون حفلة غنائية أو يحضرون فيلماً سينمائياً أو مسرحية أو يقتنون كتاباً! أن تكون مكتبيِّاً ومحبَّاً للفكر وللثقافة الحرَّة المتجدِّدة، وتؤسس مكتبة تجلب لها أهم وأحدث الكتب إلى “هنا” فعليك ألا تراهن كثيراً عن مباغتات ومفاجأت الـ”هنا”، وأن تختار، إما أن تنقل مكتبتك إلى “هناك” أو تحوِّلها إلى مكتبة قرطاسية “هنا”، وتتعوَّذ من سوأة الكتب ولعنتها! أن تكون وزيراً، مهموماً بالثقافة والأدب، وتود أن تقدِّم شيئاً لوطنك ولثقافته، فلا يليق بك أن تنظِّم ملتقى للشعر وآخر للرواية “هنا”، بل عليك أن تحمل الشعر والرواية إلى “هناك” كي تنظم أسبوعاً للأدب في بلد عربي آخر، لتقول لهم نحن لدينا شعر وقصة ورواية وفنون ولكنها للأسف لا تصلح أن تكون “هنا” بل لابد أن تكون “هناك” فقط! هكذا يشعر الكائن المتأمل القانط الساخط “هنا”، أن “هنا” هي بيئة طاردة للثقافة إجمالاً، ولا يصلح أن يؤسس “هنا” أي نشاط ثقافي أو أدبي حقيقي، بعيداً عن ما تقدمه “تكايا” الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون من ثقافة سطحية متخلَّفة، حتى فقد الإنسان “هنا” الثقة والأمل بثقافة الداخل، وأصبح لدينا ثقافتان: ثقافة “هنا” وثقافة “هناك”، أو ثقافة الداخل وثقافة الخارج! هل يعقل أن ينظم بلد فقير كاليمن مهرجاناً شعرياً عربياً لشعر التسعينات في العالم العربي، هو الأول من نوعه، ويدعو له كثير من شعراء قصيدة النثر والتفعيلة، وتحتفي بهم الصحافة والقناة الفضائية الرسمية هناك، وهل يعقل أن يتكبَّد بلداً فقيراً كاليمن تكلفة إقامة ملتقى الرواية اليمنية والألمانية، وأن يدعو الألماني غونتر غراس الحائز على نوبل للآداب، وهل يعقل أن بلداناً صغيرة كالإمارات والكويت، أقل منّا سكاناً وعدداً من المبدعين في شتى المجالات، تنظِّم ملتقيات للرواية العربية، بينما لم ينظم لدينا حتى الآن أي ملتقى للرواية أو الشعر! هل يعقل أن ننظم في “تونس” معرضاً للكتاب السعودي، ومعظم كتبنا لا تغادر بيروت والقاهرة والدار البيضاء؟ وما هي محتويات هذا المعرض؟ هل هي إصدارات الأندية الأدبية البائسة؟ ليتعزَّز لدى الآخر أن ليس لدينا إبداع ولا فكر ولا ثقافة؟ أم هي مؤلفاتنا في الخارج؟ وإذا كانت مؤلفاتنا في الخارج-مع أنني لا أتوقع- ألا يليق بها أن تحضر “هنا” أولاً ويقرأها الإنسان “هنا”، قبل أن تطير بأجنحتها الورقية إلى “هناك”! أشعر أحياناً أن المكان “هنا” لا يحتمل أكثر من مجموعات تجَّار الأسهم والمساهمات العقارية والشركات المساهمة، والأندية الرياضية التي قد تتحوَّل إلى شركات مساهمة، وسلاسل مطاعم الوجبات السريعة، وناطحات السحاب، أما الثقافة والأدب والإبداع فمكانها “هناك” حيث الهواء الحرّ والفضاء المتجدِّد والنشاطات تتلاحق مسرحاً وسينما ومعارض كتب، ومقاهي المثقفين التي لا تتوقف ليلا ونهاراً، وشعور المبدع “هناك” أن له رئتان كأي كائن آخر في هذا العالم، وليس رئة واحدة، ومعطوبة أيضا! ـــــــــــــــــــــ مقال لم ينشر- كُتب بتاريخ 10يونيو2005م
0 تعليق