الأنا والآخر في الخطاب السردي

يوليو 28, 2012 | مقالات اجتماعية | 0 تعليقات

لم أقلب نعلي حتى في نورج!  (الأنا والآخر في الخطاب السردي)   حين تأملت محاور ملتقى السرديات الدولي، شعرت بأهمية موضوع الهويَّة الذي تتماس معه خطاباتنا السردية دونما وعي أو قصد، منذ اللحظات الأولى يدخل الكاتب العربي في صراع مع ذاته ومع الآخر، أيَّاً كان هذا الآخر، ولعل الأمر يكون أكثر وضوحاً حين يكون بيننا وبين الآخر مسافة كبيرة وواضحة، كالغرب مثلا. لكنني

أتساءل: هل يجب أن نعيش في الغرب حتى لا نكتشف الآخر فحسب، بل نكتشف ذواتنا، ونتلمَّس هوياتنا، فننكفىء أحياناً إلى الداخل، بدلا من الخروج والوضوح والتماهي مع حياة الآخر لفهم هويته عبر مفهوم المثاقفة لا المتابعة والتسليم والانقياد، فكل ثقافة حديثة وقديمة قدَّمت الكثير من المعرفة إلى الحضارة الإنسانية العامة. بمعنى ما، هل كان على “هيكل” أن يقيم في الخارج ليكتب روايته “زينب”، وهل على توفيق الحكيم أن يقيم في فرنسا ليكتب روايتيه “عودة الروح” و”عصفور من الشرق”، وكذلك يحيى حقي في “قنديل أم هاشم” والطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” وسهيل إدريس في “الحي اللاتيني”، وهل كان عليَّ أيضاً أن أقيم في مدينة “نورج” شمال شرق لندن قرب القنال الإنكليزي لأكتب قصتي “لا تقلب نعلك حتى في نورج”؟ في مجموعتي القصصية “أخي يفتَّش عن رامبو” الصادرة مؤخراً، هذا السؤال الجذري يقودني إلى محاولة فهم مفتاح العلاقة مع الآخر، من حيث التصادم أوالتماهي، من حيث انتقاد ذواتنا أو ذات الآخر، ومن حيث اكتشاف وفهم ذواتنا في مرآة الآخر، فنحن دائماً بحاجة إلى الآخر المختلف كي نفهم أنفسنا ونخرج قليلاً من كينونتنا كي نشمَّ هواء كينونة الآخر:  (جئتُ إلى “نورج” بعقل أمي، وأحلامها، وإيمانها، وتقاليدها، فظللت أقلب الأحذية على بطونها، وما أن أرى حذاءً مقلوباً تجاه السماء، حتى أفزّ مرعوباً وأعدّل هيئته، لأترك أوساخه وأثر الشوارع فيه باتجاه الأرض، الأرض التي يسكن بطنها الشيطان، وما أن رأتني السيدة كاترين أكثر من مرّة أعدّل هيئة الحذاء المقلوب، حتى سألتني سؤالا لم أفهمه، فكتبته على ورقة، قمت بترجمته بالقاموس الإلكتروني، فنفيت أن أكون مريضاً نفسياً، حاولتُ أن أشرح لها بلغة مكسَّرة، أن مثل ذلك حرام كما أوصتني أمي في طفولتي، لم أعرف استخدام كلمة مكروه، وتعلمت كلمة حرام، من زميل متديِّن في الصف، كان يلاحق الطالبات اليابانيات، وينصحهن بستر أجسادهن، قبل أن يقدِّمن شكوى تحرُّش ضدَّه إلى مدير المدرسة). هكذا بدأ الصراع بين رجل عربي قروي لم يفهم أناه، ولم يستطع أن يتماهى مع أنا الآخر وحضارته، وبين سيدة غربية ترى فيه مجرَّد مريض نفسي يجب الحذر منه، ولابد في النهاية من إيداعه مصحة نفسية هناك، هذه الشخصية الساردة التي ترى أن اللعنة ستحل فيمن يكفر بالنعمة، ولا يقدِّرها حق قدرها، بدءاً بملاحقته بقايا الساندويتش التي يرميها شاب، واستخراجها من صندوق النفاية وتقبيلها ثم وضعها على حافة زجاج محل تجاري، ليتلقى سيلاً من الشتائم، وحتى مهاجمته مضيفته السيدة كاترين وهي تهين نعمة الحليب، كما في هذا المقطع نهاية النص:  (ما الذي حوّل البشر أمامي إلى قِرَدة؟ كنت أحلم بمرآة لأرى وجهي، ما إذا كان آدمياً أم قرداً بملامح صحراء بعيدة، اقتربت ذاكرتي من القريب للغاية، كيف صرخت وأنا أدخل منزل مدام كاترين عائداً من المدرسة، كيف انهلتُ عليها مجنوناً وقد سدَّت مسلك مغسلة اليدين، وبدأت تسكب الحليب على يديها ووجهها وعنقها وبلاطة صدرها الشاسعة، ثم تغرف ما تجمّع منه في حوض المغسلة وتغسل وجهها بالحليب بعدما دهنته بصفار البيض وخيار وغيره، كان صوت أمي وراء البحار يقول لي: من يسكب اللبن على السجاد يصير قرداً، كانت ملامح أمي جادَّة وصارمة، كنت أنصت إليها، في هذه اللحظة، في “نورج”، كما لو كنتُ في السادسة، كما لو كنت أعود متأرجحاً ومرهقاً بحقيبة المدرسة الضخمة. لحظة اقتربت من مدام كاترين قرب مغسلة اليدين لأمنعها، التفتت صوبي بوجه غريب، لم يكن وجهها الذي أعرفه إطلاقاً، أقسم أنه كان وجهاً مشعراً، بفكين بارزين، دون ما شفتين، كان رأسها رأس قرد عجوز أرعبني، صرخت وقفلت راجعاً، فاصطدمت بطرف الدرابزين، وسقطت، حاولت أن أنهض، فكان قرد ضخم الجثة يقف على رأسي، وينحني بشخير عال، ولم أعد أتذكر شيئاً، سوى هذا الوجه الذي يقف قربي الآن وأنا مستلق على سرير أبيض محاصر بجيش قرود، ربما كانت تتشاور فيما بينها بشأن إجراءات نقلي إلى مصحة نفسية). هل كان الصراع هنا بين الأنا والآخر هو صراع الشرق والغرب؟ هل هو صراع الميتافيزيقي والفيزيقي، هل هو صراع المتخيَّل والعقلاني؟ هل هو صراع الأسطوري والمنطقي؟ أشعر أن ثمَّة صراع وتصادم في الرؤى وفهم العالم وتفسيره بين عالم قديم يستخدم الغيبي والماورائي لفهم كثير من الظواهر، وبين عالم جديد عقلاني يحيل كل شيء إلى منطق السبب والنتيجة، ذلك العالم الذي خرج من عصور الظلام إلى عصر الأنوار، رغم أن ثمَّة بحث دؤوب في بعض جوانب السيكولوجيا بغرض فهم بعض الظواهر العصيِّة وغير المفهومة بالعقل المجرَّد، كدراسة علم الباراسيكولوجيا لهذه الظواهر والحالات المدهشة. بعد نشر نصي القصصي هذا، أشعر الآن أن من الضروري فهم ذات الآخر بشكل أكثر عمقاً في الرؤية، ليس ذلك الفهم التبسيطي والتعميمي أحياناً، بل فهمها من حيث هي أيضاً نتاج ثقافات وحضارات متعدّدة، أي أنها ذات شائكة ومعقَّدة، متذبذبة ومتغيرة من آن لآخر، ومن مكان لآخر، بالتالي على هذه الذات في خطابنا السردي أن تكون إنعكاساً حقيقياً لهذا التذبذب والتعقيد، فلا تصبح شخصية سطحية، تظهر دائماً كشخصية غالبة متفوقة عقلانية ومتحرِّرة، بينما تظهر شخصية الآنا في خطابنا السردي شخصية مهزومة منكسرة متخلِّفة روحانية، أظن أن صور الذوات الإنسانية تبقى غالباً نسبية، فالتفوق نسبي، والعقلنة نسبية، والروحانية نسبية أيضاً، فلم تزل تقع بين أيدينا نصوص سردية تقدِّم شخصية الآخر بشكل حاسم على أنها إما متفوقة ومتحرِّرة ومبدعة، أو شخصية منفلتة وتافهة ولا أخلاقية، لذا أظن أننا لا نكفّ أبدا عن توظيف عواطفنا في فهم الآخر، تلك العاطفة المنبثقة من هويتنا ومعتقداتنا التي تتخذ اليقين أساساً لها، تلك العاطفة التي غرَّرت بنا كثيراً في تبني رؤى حاسمة وجازمة، لا رؤى مشكِّكة وقلقة ومساءلة، تلك الأسئلة التي تقود حتماً إلى مزيد من الأسئلة والمعارف الجديدة. هذه النظرة إلى الأنا إزاء الآخر، والمستخدمة في خطابنا السردي العربي، هي إما نتاج استقبالنا تسويق الآخر في خطابه المكتوب والمرئي للأنا العربية بشكلها الهمجي المتخلف، التي تعتمد اليقين والسحر والإيمان بالغيبي والماورائي مقابل تحييد العقل وتهميشه، أو نتاج خطابنا الإسلامي في وجهه الأحادي لا المتعدّد، والمتكئ غالباً على هيمنة عادات وتقاليد، من الصعب زحزحتها أو مراجعتها باستخدام العقل، ومن هنا غابت الأنا كذات طبيعية حرَّة، خائفة ومتوجسة، مقهورة ومتآمرة، متساءلة ومتذبذبة، تتنازعها الأفكار والحالات السيكولوجية والأوضاع السوسيولوجية المحيطة، هذه الأنا أصبحت تظهر في الخطاب السردي العربي في نمط جاهز ومتكرِّر غالباً، إذ تقع تحت سطوة الآلة الإعلامية الغربية الضخمة، أو تحت سطوة الخطاب الديني المعلن في كره الآخر ومحاربته وتشويهه والانتقاص منه. هكذا إذن، إذا أردنا أن نتوقف عن انتقاد الغرب وما تفرزه الآلة الإعلامية الضخمة لديه من تكريس صورة نمطية لإنسانه المتفوِّق أو المخلِّص أو للإنسان العربي الهمجي والوحشي سواء في الخطاب السردي الغربي أو الخطاب البصري المرئي الغربي، علينا أيضاً أن نتوقف لوهلة ونتفقد ما وقعنا نحن فيه من تنميط صورة الأنا والآخر في خطابنا السردي العربي، علينا أن نراجع هذه الصورة مراراً، ونحاول أن نكسر نمطيتها، وأن ننتصر للإنسان فحسب، ذلك الإنسان الذي يتعرِّض إلى المرارة والاستلاب اليومي، أمام سطوة الآلة وجبروتها. أظن أن كثيراً من النصوص الروائية العربية، حتى وإن لم تظهر فيها شخصية الآخر، فإن ظهور الأنا واكتشافه، كانت نقطة أساسية بالنسبة لكثير من الروائيين والدارسين العرب، ففي الرواية السعودية الجديدة ظهر الإنسان كما هو، ببساطته وتعقيداته، بوضوحه وازدواجيته، بوحدة رؤيته وخطابه وتعدد شخصيته وتشظيها، ظهر ككائن له تركيبة متعددة ومعقدة، مثله مثل أي إنسان آخر في هذا العالم، بعد أن كان المجتمع المحافظ يخفي الكثير من المكائد والمؤامرات ويتحفظ على قول كثير من السلوكيات، هكذا أصبحت قراءتنا للآخر، سواء كان هذا الآخر عربياً أم أجنبياً، زاداً مهماً لتقديم الآنا بشكلها الحقيقي والعميق، بعد نفي صفة القداسة عنها، تلك القداسة التي تضفي عليها صفات النبل والنزاهة والصدق، لتظهر الأنا المتشككة والمضطربة والمتآمرة والمخادعة، فاقتحمت الرواية السعودية- كما أظن- مناطق المسكوت عنه والمحرم، وقدّمت شخوصها محدَّدين وواضحين دونما حجاب، وحاولت أن تلامس الهامش السياسي والاجتماعي وتكشفه، حتى وإن تخفَّف الخطاب الروائي في السعودية من القبض على جماليات الرواية الحديثة وشروطها الفنِّية مؤقتاً، فإن ذلك سيظهر بجمال في تجربة رواية التسعينيات الميلادية، مثلما ظهرت القصة القصيرة الجديدة في أعلى تجلياتها الفنِّية والجمالية مع جيل الثمانينيات السابق. رغم ذلك، لم تزل حساسية الإنسان في السعودية تظهر جليَّة آن ينظر فجأةً إلى نفسه عارياً أمام مرآة النص السردي، فيثور ويغضب ويشتم ويتهم، تماماً كما تعرضت له الآنسة “منيرة الساهي” الشخصية المحورية في روايتي الأخيرة “القارورة”، من اتهام بالمبالغة والتشويه للمرأة السعودية، التي لا يمكن أن تبدو هكذا ساذجة وتافهة ومتلهفة على الحب، لندخل بذلك في نفق المطالبة في التعميم والتنميط لشخصية الأنا، وكأن علينا مرة أخرى أن نُظهر الآنا قوية وذكية ومتماسكة ونبيلة ونزيهة و..و..ألخ. فضلاً عن آراء أخرى ترى أن علينا ألا ننشر غسيلنا أمام الآخرين، وأن لا نتحامل وندين مجتمعنا بمبالغة وقسوة، وذلك تحت شعار مللنا سماعه، وهو أن ليس كل ما يُعرف يقال، لأقول بثقة، بل علينا أن نقول ما نعرف، ولكن الأهم هو ما هي طريقة القول وأسلوبه، ما هي طريقة الخطاب السردي وجمالياته المقترحة، ما هي اللغة المكتوب بها هذا الخطاب، ما هي لعبة النص ولذته المستخدمة هنا، كل هذه العوامل هي التي ستنقل النص بفتنةٍ من خطابيته السياسية والفكرية المباشرة والجامدة إلى طراوته الفنية ومعماره الجمالي البديع. كل ما أخشاه في النص الروائي لدينا، هو الوصول إلى مسلَّمات ويقينيات يصعب تجاوزها، منها النظرة إلى الأنا عبر تنميطها ونمذجتها، سواء تمثَّل هذا التنميط في القبض على شيطنتها أو ملائكيتها، سواء تمثَّل في تضخيم القيم السلبية فقط في الشخصية، أو محاولة تكريس القيم الإيجابية فحسب، فالنفس البشرية كما أرى متشابهة في وسوساتها وتعقيداتها، وتداخل الإنساني فيها مع اللاإنساني، تضارب الخير مع الشر، تنازع الشك مع اليقين. هذه الأنا بكل ما يحيط بها من نوازع وظروف بيئية واجتماعية هي من الصعوبة أن تنمذج وتنمَّط وتوحَّد، إزاء تعددها وتغيّرها وتشظيها. لعل ذلك سيبدو أمراً مقلقاً فعلاً، بأن تنتقل الشخصية الحيَّة والحقيقية إلى الورق بعد تصفيتها من الشوائب عبر قصدية الرقيب الذاتي أو المجتمعي، حتى يتم قولبتها كما تشاء الذاكرة الجمعية أو النسق الجمعي، تماماً كما هو طموح البطل في قصة “لا تقلب نعلك حتى في نورج” الذي يلاحق ويركض خلف ما يعارض هويته ومفهومه وخطابه الواحد، ويحاول أن لا ينمذج شخصيته فحسب، بل يحلم أن ينمذج ثقافة مجتمع آخر بأكمله وفق رؤاه، إذ لم يكن لديه القدرة على التماهي والتمازج مع ثقافة وحياة أخرى، كيف ذلك وهو يملك اليقين والتسليم والحسم في رؤيته تجاه الحياة. هكذا تبدو مسألة الأنا والآخر متشعبة ومتعددة إلى درجة يصعب التحكم في قيادها داخل النص، هكذا أحلم أن تتحرَّر الأنا في الخطاب السردي من صورتها الجاهزة، وأن نكتشف الآخر أيضاً بعد أن نتخلَّص من رؤانا السابقة، هكذا أنتظر أن تظهر “أنا” جديدة ومغايرة للسائد والمألوف في الخطاب السردي العربي. ـــــــــــــــــــــــ  شهادة مكتوبة لملتقى السرديات الدولي في جامعة بشار بالجزائر- عام2005م.

 

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *