ماهو التاريخ؟ كنت أسأل نفسي قبل أن أشرع في كتابة شهادتي هذه، تاركاً المخيلة تجوس في الأنحاء حرّة وطليقة. هل التاريخ خيال ابتكره مبدعون في غرف دافئة ومغلقة؟ أم أن التاريخ حقائق اخترعها المؤرخ السلطوي بهدف شرعنة نظام ما وحشد كل المسوغات له؟ هل التاريخ يحاول عكس صورة واقعية لما حدث في حقبة زمنية ما؟ وهل يمكن بالتالي أن يُختزل العالم، في لحظة
ما، بين دفتي كتاب؟ هل يمكن أن تصف عين واحدة مأساة حرب هائلة في مطلع القرن؟ وأي عين هذه؟ أهي عين السلطان المنتصر، أم العدو المهزوم، أم الباحث عن غنيمة حرب، أم السبيّة، أم المحارب المغرّر به، أم أمُّه التى خرجت من خبائها لا تكفُّ عن الفزع والولولة! هل العين التي تصفُ هي عين الإنسان الشاهد على التاريخ؟ أم عين الإنسان المستقصي والمستنتج في الكتب والوثائق؟ أم هي عين الأشياء، كأن يروي السيف -كأثرٍ وشاهد حرب- حوادث التاريخ والمعارك، وتكشف الأطلال والشواهد والآثار والمدن المطمورة وقائع تاريخية ما، فتقول القصور والأبراج والمقاصير ما لم تقله كتب التاريخ وأرتال الوثائق. الرواية تلتبس بالتاريخ، توازيه وتنأى عنه، تتصالح معه وترفضه، ففي جانب الإنسان والزمان والمكان تستدني التاريخ بعناصره المعروفة، لكنها تستبعده في القول بحقائق المرويات، وتكرّس الخيال في قراءة الوقائع أحياناً، وفي تكريس الأسطورة والخرافة أحايين أخرى، إلى الحد الذي يجعل المؤرخ يتداخل في الروائي، فإن كان الطبري مثلاً، أو المسعودي مؤرخاً، فهل القزويني في “عجائب المخلوقات” مؤرخاً أم متخيّلاً عظيماً ومبدعاً خلاّقاً؟ الروائي والمؤرخ مثل صديقين يسيران جنباً إلى جنب، متصالحان في الظاهر، وفي الباطن أحدهما يضمر خيانة أو مساءلة الآخر، هي خيانة في نظر المؤرخ، لكنها مساءلة وإعادة تأويل في وعي الروائي، أو استلهام الحادثة التاريخية وتوظيفها لنقد الواقع الراهن، أو فهم آلية الحوادث والوقائع التاريخية وربطها بأحداث الواقع بهدف استشراف المستقبل، أي التنبوء بالمستقبل وفقاً لدراسة الماضي وفهمه. كما قد تأتي دراسة التاريخ عبر قراءة الوثائق لمعرفة الوقائع من جهة، ولمعرفة ما يحيط بهذه الوقائع والأحداث من أنثروبولوجيا تساعد غالباً في مخيلة الروائي. هكذا قرأتُ تاريخ الرق في المجتمع السوداني أواخر القرن الماضي، ومطلع القرن الحديث، تتبعت جذوره ومنابعه وتحولاته، آلية البيع والشراء في سوق النخاسة، أساليب الجلاَّبة في صيد الرقيق ونصب الكمائن لهم، قرأت ذلك عبر الوثائق المصوَّرة، وتلمست كلام الشهود والعجائز، بهدف الاشتغال على شخصية “توفيق” في روايتي “فخاخ الرائحة”، كما استقصيت تاريخ المكان وجغرافيته: دارفور، كردفان، شندي، سواكن، مصوّع، وجدة …إلخ. كانت قراءتي للتاريخ ليس بهدف إعادة كتابته، بل فهمه أولاً، والاستفادة من واقعيته، بكل ما فيها من شخوص وأسماء وعملات نقد وأثاث مظاهر طبيعة…إلخ. كذلك كانت رائحة الحرب، رغم أنني عشتها، تنفّست هواء عربات الجند وهي تعبر في شوارع الرياض التي تئن آنذاك تحت صفارات الإنذار، وانطلاق المضادات الأمريكية باتريوت، وحراك المجتمع وتصارع تياراته، إلا أنها – أي الحرب – تحولت إلى أمس، باتت في حكم التاريخ، وامتلكت فرصة قراءتها والتمعن في تفاصيلها عبر أكثر من منظار ورؤية، هذا الأمر جعلني لحظة التجهيز لكتابة روايتي “القارورة” أسأل نفسي سؤالاً محورياً: ما هو التاريخ؟ أين يبدأ وأين ينتهي؟ تاريخ العصور القديمة؟ أم تاريخ البارحة؟ هل هو تاريخ الأمم والحضارات؟ أم تاريخ الأشخاص المخلَّدين؟ أم تاريخ أصنعه عن أشخاص أهملهم التاريخ، وجئت لكي أنصف هؤلاء المهمَّشين؟ فأصبح تاريخ الرق ليس ما خلَّفته لنا الوثائق البريطانية فحسب، بل أن “توفيق” السوداني عبر تجربة حياتية في رحلة تهريب عبر البحر الأحمر بتبرير الحج هو من يدوِّن التاريخ، تاريخ الرق، كما تراه شخصية مضطهدة ومعذَّبة، وحياة شخصية البدوي “طراد” قد تسجل تاريخ الصحراء وقوانينها وناموسها أكثر مما تسجله ذاكرة مؤرخي السلطة، فالحياة كلها – في نظره- قطع للطريق، سواء في الصحراء أو المدينة، فالكل يقطع طريق الكل، ومن هنا أصبح قطع الطرق هو نوع الحياة المتاح والمباح علناً في الصحراء قديماً، والمباح سرَّاً في المدن حديثاً. الرواية إذاً، تتقاطع مع التاريخ، إما أن تكشف انحيازه مع حوادث وشخوص، وتهب الفرصة لغيرها ولغيرهم، أو أن تعيد كتابة الحادثة التاريخية، أو تتلمّس الشخصية التاريخية في جوانبها المهملة، أو تسقط التاريخ على الزمن المعاصر، كما فعل روائيون عرب متعدِّدون، عبدالرحمن منيف في “مدن الملح” وجمال الغيطاني في “الزيني بركات” وسالم بنحميش في “مجنون الحكم” أو “العلاّمة”، وقبل هؤلاء جاءت تجارب سليم البستاني وجورجي زيدان ونجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار ومحمد فريد أبو حديد وعلي باكثير وآخرين. أشعر شخصيّاً أنني كلما قرأت التاريخ، عالمه وشخوصه، دسائسه ومكائده، الموت الناعم حيناً، والشرس حيناً آخر، كلما رأيت هؤلاء النبلاء والقتلة، السادة والعبيد، بل حتى المؤرخين الذي يسوقون خيالاتهم كثيراً، أراهم وقد أحاطوا طاولة الكتابة حيث أجلس، وصاروا يتخاصمون ويتجادلون، إلى الحد الذي يفقد فيه الواحد منهم ملامحه، ويتحوّل شيئاً فشيئاً، مرة إلى إنسان عصري، وأخرى إلى ذئب، وثالثة إلى شجرة طلح صحراوية، ورابعة إلى فراشة رفرافة ذات ألوان بديعة تسلب عقل ابن الصحراء، هكذا تتبدّل عظام الكائنات البائدة، فلا أعرف لحظتها إن كنت أنهر ذئباً أم سلطاناً عثمانياً، أو إن كنت ألحق بفراشة أم بلقيساً تفتِّش عن عرشها في سبأ، أو إن كنت أستظل بشجرة طلح أم بساكن بائد في مدائن صالح! هكذا يختلط الآن بالأمس، والإنسان بالكائنات المتنوّعة كلها، والواقعي بالمتخيَّل، هكذا لا أعرف إن كنت في الألفية الثالثة أو فيما قبل الميلاد، قبيل أن يضجَّ جرس الهاتف قربي، فتفرُّ الأشياء المتداخلة كلها بغتة كما لو كانت عصافير سدرة نفرت إثر طلقة بندقية! أشعر دائماً أن الحدّ الرهيف بين الأزمنة يتعلَّق بجرس هاتف أو باب، أو منبِّه عربة تمرق من أسفل البناية، حتى أن الحالة تكون في ذروتها ويذوب الخيط تماماً بين الأزمنة لحظة أن يتحوَّل منبّه العربة إلى صهيل، فلا أعرف بالضبط إن كنت في إحدى معارك حرب البسوس أم في وقعة السبية بين الدهناء والصمّان، ولا أعرف إن كان سيدق بابي الزير سالم أم شريد نجدي أو حساوي، ولا أعرف إن كانت الأرض التي أقف عليها تنام على مدن عدّة وعصور قديمة، حتى أن “منفوحة” التي أعرف الآن، إذ أرى فيها كهلاً يتكئ على عكازه وقت العصر، يخطو بصعوبة ويصنع من يده مظلَّة عن الشمس ويحاول أن يرى، أشعر كما لو كان الأعشى يتفقد المكان ويبحث عن النساء والحانات! أسأل نفسي كثيراً لماذا يتداخل التاريخي باليومي والآني دائماً، لماذا لا أكفُّ عن رؤية القتلى يجرفهم وادي حنيفة حتى السهباء؟ لماذا لا تكفُّ “اليمامة” وهي توقظ “الرياض”، بل لماذا يأتي امرؤ القيس ضالاً وشريداً من كتب التاريخ، ويبحث عن ممالك وأودية وبقر وحشيّ، فلا يجد سوى جزء من معلقته سمحت بها الرقابة في مقررات المدارس الثانوية! هكذا يتحامل التاريخ غالباً وهو يوزّع الألقاب ويهب التقسيمات، فهؤلاء هم المسلمون وأولئك ناقضو العهد، وهكذا تنأى الرواية بمخيلة كاتبها ووعيه ورؤيته واستقلاله، فكأنما المؤرخ يصنع حدائق من البارود والمدافع والبنادق، بينما الروائي يسقى ما يشاء من شجرها، ويقلّم ويهذّب أغصانها، هكذا أرى التاريخ بوصفه حديقة، وأرى الروائي بوصفه بستانياً يملك أن يرعى ما يشاء، ويجتثّ ما يشاء، أن يرعى حدائق الأرض، أو أن يرعى حدائق السماء! شهادة حول (الرواية والتاريخ) للملتقى الثالث للرواية العربية بالقاهرة عام 2004م.
0 تعليق