شهادة حول الرواية والمدينة حجرٌ في يدي ، وسطح الماء يتحفز
كنت أسأل نفسي كثيراً قبل أن أكتب لهذا المؤتمر: أين هي المدينة؟ هل هي مدينة الروح؟ هل هي مدينة الذاكرة؟ تلك المدينة التي عرفتها في الصغر أم ماذا؟ لكنني أدركت أن المدينة تشبه اللوحة التشكيلية، كي أدرك سر تفاصيلها وفتنتها ودقائقها الصغيرة والمخبوءة، عليّ أن أبتعد قليلا كي أرى، هكذا تعلمت أن أبتعد عن “الرياض” وأتوارى عنها خلف أكثر من بحر وعمر، كي أوقظها
وأستحضرها في غرفة علوية داخل منزل قريب من شارع “درم رود” في مدينة “نورج” في الشمال الشرقي من لندن، حيث عشت مع السيدة الإنجليزية جين، ومن ثم مع العجوز الهولندي هانك، فكان منزل مدام جين صغير، يربكني أزيز سلم الدرج الخشبي فيه، وهو ينتحب آن أهبط منه، لدرجة أنني ألوم قسوتي وأنا أسمع شجر الحقول يبكي تحت وطأتي!! لعل من حسن حظي أو سوئه أن تكون “الرياض” مدينة بكرا على المستوى الإبداعي، أقول حسن الحظ لأنني سأطرح الرياض كما أرى وأريد، متخلصاً من عبء الموروث الذي يسبقني ويكبلني، فلا أحد توّج “الرياض” وأطلقها عروساً صحراوية خجولا أو خائنة لناسها وكائناتها، فلم تكن “الرياض” هي القاهرة التي قدمها محفوظ إلى العالم، بل هي مدينة ترفل في الصمت والسكون والسيارات المجنونة والنساء المخفورات بالعباءات والسواد، والدراجات الهوائية التي يقودها عمّال باكستانيون وأفغان. هل “الرياض” هي مدينة أعشى “منفوحة”، الحي القديم؟ أم مدينة مايكل جاكسون وبيكام في شساعة حي “العليا” الحديث؟؟ هل هي مدينة النساء والعجائز النجديات؟ أم هي مدينة خادمات أندونيسيا والفلبين؟؟ هل هي مدينة شارع عسير حيث ينتشر الجزارون بدكاكينهم المفتوحة للهواء والذباب الحائم في السكون؟؟ أم هي مدينة شارع العليا حيث تنتشر محلات “مذركير” و”نكست” و” مانجو” وآخر ماركات لندن وباريس، ومطاعم ماكدونالدز الأمريكية؟؟ هل الرياض بيوت الطين الدافئة والمتعانقة بخشوع وخوف وشك أمام سطوة المطر والريح والزمن؟ أم هي برج الفيصيلة والمملكة، وهما يقفان كوحشين يتأهبان لمصارعة الهواء، وهما يهجسان بعملاق مبني التجارة العالمي في نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر؟؟ وهل “الرياض” مدينة القرويين النازحين النزيهين الباحثين عن لقمة العيش؟؟ أم هي مدينة اللصوص القافزين – في الغفلة- من طبقة وسطى إلى طبقة الكنوز السرّية ومصباح علاء الدين؟؟ أم هي مدينة المتطرفين الذين نبتوا – في غفلة الزمن- في منازلنا، وشربوا شاي العصر معنا، ولبسوا أحذيتنا ذاهبين إلى المسجد، وكتبوا معنا في الفصل المدرسي ،ذات صباح زمن زمن السبعينات: بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمن.. إلى مصر فتطوان..هؤلاء الذين مزقوا النشيد الحميم، وصنعوا نشيدهم الآخر، وثيابهم الأخرى القصيرة، ما فوق الكعبين، ووجوههم الصامتة المرتابة، التي تبذر الشك وتحرس النوايا!! أقول أنني لحسن الحظ، لأن هذا الفضاء البكر ليّ، وللكلمات التي أطلقها كي أخلق هذه المدينة على الورق، بروحها وصمتها وريبتها، وأيضا أشعر أنني سيء الحظ لأن عليّ أن أصنع مدينة لم أقرأها من قبل، كما قرأ المصريون الشباب قاهرة محفوظ، وأسكندرية الخراط وإبراهيم عبدالمجيد. * * الرواية ليست الخبرات الشخصية، ليست ما ترويه الجدّات عند النوم، ليست ما يرويه الرجال في جلسات سمر حول شعلات نار فوق تلّ رمل. ليست الحكاية الشفهية لدى العابرين، وليست حكايات الحكمة، والسحر، والجن، والأساطير. إنها ليست أيّاً من هذه، وهي كلها جميعا. هي أن استلهم كل هذه الحكايات، وأصهرها في معمل لغتي ورؤيتي تجاه ذاتي، وتجاه الأشياء والكائنات حولي في هذا العالم. الرواية إذاً- تعبيريا كما أرى- هي التقاط المعاني والأفكار والحكايات المقذوفة أمامي في الطرقات، تلك المخبوءة تحت السطح، تلك المُغفلة والمُهملة والمواربة، تلك التي يسكت عنها الآخرون. وهي أيضا التي لا تلفت النظر والانتباه، دون ما إعمال البصر، وتدريبه على الملاحظة والالتقاط من علو كما عين صقر. ثم استلهام هذه جماليا عبر لغة شفافة سهلة وشاقة معا، بسيطة وموحية، لغة سرد مجليّة ومنحوتة، تقف على تخوم الشعر. عبر بناء واع ومحبوك. عبر تقطيع مدروس متتال، يربط بين المقاطع والانتقالات بخيط ما، حتى لو كان هذا الخيط واهياً للوهلة الأولى. أشعر أن غزل الكلمات ونسجها من حكايات مطروحة في الطريق، يشبه أن ترى وجهك في صفحة ماء البئر، ثم تلقي حجرا. هنا بالذات تبدأ كتابة الرواية كما أظن، فالوجه الراكد على صفحة الماء هو ما يرويه الآخرون، والحجر في يدي هو أدواتي الإبداعية التي حرّكت بها الحكاية . كوني أدمن الشعر قراءة وتمحيصا واستمتاعا، وكوني جرّبت التشكيل ذات طفولة وحققت فيه جائزة تشجيعية يابانية على مستوى طلاب المدارس عن لوحة “يوم الأم”، وكوني شحذت البصر طويلا، منذ استبدلت بندقية “الساكتون” الهدية من أمي بكاميرا من نوع “أوليمبس” بعدساتها ومرشحاتها، وبدلا من ماسورة البندقية صرت أصوّب عدسة “التلي فوتو”، تجاه ريش العصفور، فأصعقه بلقطة نادرة، أصوّبها إلى طائر حرّ في الأعالي، إلى الثمرة، وإلى الوجوه المتغضّنة. كل هذا ربما جعلني أستفيد من الشِعْر والتشكيل والفوتوغراف والسينما والإبداع للطفل، قصة أو مسرح، في نضد كتابة نصي الروائي والقصصي، بطريقة ترضي بحثي عن خصوصية ما، حتى لو لم تحقق رضا القارئ أو الناشر، ورغم ذلك مازلت أبحث عن حفر، متميز ومختلف، في دهاليز اللغة والبناء وطرائق الكتابة، وَقود المعاني والحكايات إلى ما أريد. هذه الحكايات والحكم والأساطير والوقائع اليومية أقودها، لا أقولها تماما، لا أفصح تماما، ولا أخفي وأحجب تماما، بل أحتفظ بالمفتاح في جيبي حتى آخر شهقة في عمر السرد. عندئذ سيكون المفتاح، وأسميه هنا مفتاح السرّ أو الكنز أو المغارة، هو مفتاح ذهبي للحكاية كلها، للرواية كلها. لذا أقول دائما لقارئي، إذا كان ثمّة قارئ فعلا، لا تتعجل الذهب، فقط واصل اللعبة معي إلى آخرها. هذا ما فعلته بالضبط في روايتي الأخيرة “فخاخ الرائحة” إذ دفعت سرّ الأذن المقطوفة لدى البطل إلى آخر فصل من الرواية، فالمتعة في قراءة رواية ما، لا تعادلها سوى متعة الكتابة ذاتها، فكلما كنت أشعر بالمتعة وأنا أكتب، وتنتابني غواية وهوس السرد، كلما أدركت أنني أسير في الإتجاه الصحيح. أشعر أن للمكان سطوة ما على نصّي الروائي، حتى لو لم يكن حضورا علنيا، فهو حضور ضمني عبر الشخوص والعناصر والفضاء ذاته. وأحيانا يمكن القبض على روح المدينة “الرياض” مثلا، في رواية “فخاخ الرائحة” ورواية “لغط موتى”. كما أنني لا أحب تصنيفي كروائي مدينة، أو كاتب ريف، أو كاتب بحر، أو صحراء، بل لقد كسرت كل هذه القيود- بقصدية واضحة- في رواية “فخاخ الرائحة”، إذ حضرت المدينة برائحتها والصحراء بصمتها، والغابة بفخاخها، والبحر بقسوته وجبروته. ربما أكون معنيا، بشكل أو بآخر، بالقصة العالمية، منذ تجارب تشيخوف وفوكنر وكافكا، وحتى حياد كثير من قصاصي اليابان تجاه الواقع والشخوص، مثل ميشيما وكاواباتا وتانيزاكي، مرورا بتجربة قصص أمريكا اللاتينية، حيث سحرية ماركيز، وتأملات بورخيس. وحساسية كازانتزاكي وشفافية رؤيته وحدسه، وبناء بلزاك ومحفوظ. وقبل كل ذلك كان للأساطير زمن الطفولة فضلٌ كبير عليّ، في إطلاق جياد اللغة حرّة في براري المخيّلة. أؤمن أن للقارئ كفكرة معنى ما. هي وجود شريك ثالث، مع النص والكاتب، يتحوّل بها النص من تمثال طائر منحوت ببراعة، إلى طائر يصفق بجناحيه في الفضاء، ويقف فوق رؤوس الأطفال، ويلتقط الحبّ من أكفهم. كثيرا ما أشعر بجدوى أن ينتقل النص من كونه فضاء مكتفٍ بذاته. معزول بشخوصه ومكانه، إلى نص يتبادل الحوار، التأثير والتأثر، الكلام والإنصات، المرسل والمرسل إليه، وهكذا. لا أريد أن أؤكد موت القارئ حاليا، لكن القارئ لم يعد مهموما ولاهثا وراء الكتاب، ما لم يدخل الكتاب في إطار التسلية أو النفع المباشر والسطحي، بإرضاء عاطفة أو غريزة أو ما شابه. ولا أريد أن أقول أن الكتاب في العالم المتطور تطبع منه عشرات الطبعات، وتباع منه ملايين النسخ. في المقابل لا نعرف في العالم العربي غير الطبعة الأولى، وهي الأخيرة بالتأكيد، والنسخ التي لا تتجاوز المئات. لا أريد الخوض في ذلك لأن له أسبابه المعروفة إجرائيا واقتصاديا وسياسيا. علاقتي بالكتابة بدأت مبكرا، وعبر حكاية تشبه المصادفة، فكوني جئت ولدا بعد سبع زهرات، مات ثلاث منهن، أعطاني اهتماما وعناية خاصة، على الأقل من قبل أمي، التي كانت أمّا وأبا، في ظل غياب أبي وانشغاله وإهماله. ولأنني كثير الأمراض والآفات، كان من السهل أن افتعل المرض أيضا، إذ أتمارض كلما شحّت القصص والأساطير الجديدة لديّ، وعلاجي أو تسليتي وتلهيتي عن المرض هي القراءة. كانت أمي لحظة ذاك تشتري عافيتي، إذ تدسّ في يد أختي الصغرى ريالين أو ثلاثة، رغم ضيق ذات اليد، فتنطلق أختى إلى المكتبة العربية في شارع الشميسي، وتشتري كتابا مستعملا. ذات يوم عادت وفي يدها سيرة سيف بن ذي يزن. كانت تحمل حصانه السحري الطائر، وفي عيني بريق الولع والدهشة وحب المعرفة. بعدما التهمت الصفحات وحرارة جسمي تخفّ، اكتشفت أن الأسطورة ناقصة الصفحات، كانت بلا نهاية، عندها اشتعلت مخيّلة الطفولة، وأصبحت شاسعة كالبراري، واقترحت آنذاك عدة نهايات للسيرة الأسطورة. أظن أنني بدأت منذ ذلك الزمن فعل إشعال المخيلة ومطاردة الكلمات. لا أخفي أنني آنذاك رأيت “أوليفر تويست” وعرفته، آخيته وصاحبني زمن الطفولة، دون أن أعرف أباه “تشارلز ديكنز”، كما أنني رأيت وجه أمي في تجاعيد وكدح “بائعة الخبز” دون أن أهتم أو أكترث بمؤلفها “فيكتور هيجو”، تعلمت من هاتين الروايتين كيف يمكن أن يتحوّل العناء والنَصَب إلى إبداع حقيقي وعميق، وعلمتني ليالي “ألف ليلة وليلة” سهولة السرد وفتنته، وبراعة فخاخه اللذيذة، هكذا كانت الطفولة تنتمي إلى إبداع العناء والقهر والمتعة معاً. ربما من بين الأسئلة الأكثر تحريضا، التي تشبه أسئلة الفلسفة الأولى: من أنا؟ من أين أتى العالم؟ إلى أين سنذهب؟ تأتي أسئلة الكتابة: لماذا أكتب؟ لمن أكتب؟ ما جدوى الكتابة؟ …..ألخ. لكل زمن إجابته، ففي مراحل الكتابة المختلفة لديّ، تتباين الإجابات، فمرة أكتب لأضيف شيئا إلى هذا العالم، ومرة لأبحث عن إجابات لأسئلة ميتا فيزيقية وما ورائية، ومرة لأصف العالم وأكشف سوءاته وأفضح قبحه، ومرّة لأصنع نصوصا تشبه لعب أطفال مسليّة، ومرّة لأشعر أنني مازلت حيّا، وأنني أسمع صوت ذاتي من أعماق ذاتي الغائرة، ومرّة لأبقي على نفسي وحياتي وحيويتي. في كل الأحوال أجد في الكتابة نوعا من العزاء لذاتي ولبقائي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • شهادة حول الرواية والمدينة، ألقيت في مؤتمر القاهرة الثاني للرواية العربية عام2003م.
0 تعليق