تجربة أولى في الرواية: “لغط موتى”…رحلة طويلة لرواية قصيرة في أواخر عام 95م، تحديداً في شهر نوفمبر، وفي لحظة حاسمة أمام مخبز في شارع العروبة المحاذي لمنزلي المستأجر، لمعت فكرة روايتي “لغط موتى”، حين أقول لمعت فأنا أشير إلى الشكل الذي استخدمته في الرواية، أما الشخوص والفضاء والأحداث فقد كانت تلاحقني قبلها بسنتين تقريباً، لكنني كنت قلقاً
حيال الإناء الذي سأضع فيه هذا العالم، لم أحب النمط المعتاد، نمط الراوي العليم، أو استخدام ضمير المتكلم مثلا، أو أن أشرع في نصي بجملة على غرار: كان السيد مسعود سائقاً يعيل أسرته الصغيرة…إلخ. فظهرت لي فكرة أن يحاصرني الأشخاص: مسعود وموضي ومزنة وغيرهم، أحدهم يشتمني، والآخر يعاتبني كيف أحكي هذه الواقعة وأخفى الأخرى، كل واحد منهم يريد أن يمسك زمام السرد، وهذا ما يجعلني غير قادر على صنع رواية متكاملة، وفي النهاية أكتشف أنني كتبت رواية حقيقية. لم تكن “لغط موتى” هي روايتي الأولى، فقد سبقها عمل روائي عام 93م، ولم أكمله فقررت أن أمزقه، ليقيني أن نصاً لا يسوطني خلف متعته غير جدير باستجدائه، هكذا جئت إلى طاولة الكتابة تحت وطأة الشعور بالفشل، وأنني لن أكمل الرواية، فقررت ألا أكتب في دفاتر مسطرة كما كانت بدايتي الأولى، فاستخدمت ورق الصحافة المائل إلى الصفرة، ولم أكن أملك آنذاك مكتباً خاصاً في منزلي الصغير، وهو عبارة عن دور علوي قديم، له بلكونة مفصولة عن غرفة الأطفال بنافذة زجاجية، ومفتوحة على الساكن في الأسفل، فكان لابد من بناء ساتر عن الجار، ومن هنا تحوّلت البلكونة إلى مكتباً ومستودعاً معا، لتبدأ متعة العاشرة ليلاً، حيث يخمد الأطفال في نوم عميم، وأشعل شمعة ضخمة كي أرى، وأستمر في الكتابة الدؤوبة حتى الرابعة صباحاً، فأغفو ساعتين قبل أن أقود الصغار إلى مدارسهم، وأنصرف إلى عملي الصباحي مشوّشاً، لا يكفّ الشخوص عن مطاردتي، لتبق ساعات النهار أشبه بصخب أحياء وموتى في رأسي، حتى أجلس متلهّفاً وشغوفاً على طاولتي في العاشرة، وهكذا ظللت أكتب بدأب ولهاث حتى ثلثي الرواية، فتوقفت شاعراً أنني انتهيت، وبعثت بنسخة لعدد من الأصدقاء منهم علي العمري وعبدالله السفر والمغربي إبراهيم أغلان، فأحبوا العمل وشعروا أنه عمل روائي تجريبي، ولم يقل أي منهم أنه لم ينته بعد، لكنني عدت بعد أشهر وأكملت الثلث الأخير من الرواية. في خريف 1996 كنت في بيروت، وقابلت صاحب المركز الثقافي العربي الناشر حسن ياغي للمرة الأولى، وتحدثنا طويلا عن الكتابة والنشر، ودعاني إلى مكتبه في اليوم التالي، ثم طلب مني روايتي الأولى “لغط موتى”، بعد أن ذكرت له أنني لن أطالبه بمبلغ نقدي لكنني بالطبع لن أدفع سنتاً واحداً، وبعد شهر تقريباً أرسل لي رسالة بريدية رائعة، يحتفي فيها بالرواية ولغتها وتماسكها، لكنه يعتذر عن نشرها كونها لا تناسب خط الدار، كنت أمتلك وعياً بأن اعتذار ناشر عن طبع كتاب هو مسألة صحية وضرورية، ستفضي بي إلى ناشر آخر متحمس، فكان لقائي مع د. عبدالله أبو هيف في مهرجان الجنادرية لقاءً حميماً طلب مني أن أنشر عملا قصصيا في سوريا، وسلمته مخطوطة رواية “لغط موتى” ومجموعة قصصية عنوانها “النوافذ تعوي تباعاً” ثم سافرت إلى بريطانيا وانشغلت عن الكتابة والإبداع والنشر وغيرها، لأغوص في عالم جديد من الحياة واللغة والاكتشاف لعالم آخر. بعد أن عدت من بريطانيا عام 99م تعرفت على إصدارات دار الجمل، وشعرت أنها دار نشر جادة وصارمة في شروط النشر، فأرسلت إلى صاحبها الشاعر خالد المعالي مخطوطة “لغط موتى”، فهاتفني بعد شهرين من المانيا، وكنت للمصادفة أكد أصرخ فرحاً وأنا أقبض على شخصيات روايتي الثانية “فخاخ الرائحة” في أحد شوارع حي المروج بالرياض، قال لي المعالي هاتفياً أنه قرأ “لغط موتى” في رحلة في القطار بين مدينتين المانيتين، ووجدها عملا روائيا مميزا، وأنه سيضعها ضمن برنامج النشر بالدار. بعد أشهر قليلة من عودتي من بريطانيا، وبعد رغبة المعالي بنشر الرواية، هاتفني الصديق الشاعر سعد الحميدين قائلا، أن لي مجموعة قصصية اسمها “لغط موتى” صدرت لدى إتحاد الكتاب العرب، لحظتها شعرت بصدمة ومباغتة، وبعد الاتصال بالأستاذ أبو هيف، عاتبني بأن الأخوة في الإتحاد حاولوا مراراً الإتصال بي هاتفياً دون جدوى، وقد وافقت تلك الإتصالات سفري إلى الخارج، فلم يكن لي عنوان، وكانت شروط الإتحاد أن لا يقل حجم الكتاب عن مائة صفحة، بينما رواية “لغط موتى” جاءت في حدود ثمانين صفحة، مما اضطر الأخوة في الإتحاد إلى دمج الرواية مع المجموعة القصصية، لتصدرا معا في كتاب واحد عنوانه “لغط موتى” فتشوهت الرواية، وماتت المجموعة القصصية تلك. شعرت آنذاك بألم لم تنقذني معه مواساة العزيز أبو هيف هاتفياً، بقراءة كلمة الناشر التي تحتفي بالعمل، والإخراج الجميل وما سواه. نصحني بعض الأصدقاء بأن أطلب من الإتحاد حرق كمية النسخ، أو أن أتحفظ على النسخ المرسلة لي، كي تصدر الرواية بشكلها المناسب لدى دار الجمل، لكنني شعرت أن هذا الأمر انتهى، وعليّ أن أعمل من جديد، وأن أجد الفرصة المناسبة للإعتذار من خالد المعالي، فقابلته في معرض الكتاب بالقاهرة عام 2001م، وأهديته في مقهى “الغريون” نسخة من “لغط موتى” طبعة الإتحاد، معتذرا منه، لكنه فاجأني أنه سينشر الرواية حتى لو طبعت في مكان ضعيف الإنتشار كاتحاد الكتاب العرب، ولم تنشر في دار الجمل إلا بعد سنتين من هذا اللقاء! هكذا تأخر نشر روايتي الأولى “لغط موتى” منذ 96م وحتى 2003م، لسبب بسيط وجوهري، هو أنني أبحث عن ناشر حقيقي، وليس مجرّد تاجر متجوّل يتفحّص جيوبي قبل قراءة عملي، كان لديّ موقف واضح ومحدّد، أنني أتعب على كتابة نصي الروائي، وعلى الناشر أن يتعب على طباعة روايتي، ويتعب على تسويقها بالشكل المناسب. طبعاً كنت أعرف أن رواية تحمل نَفَساً تجريبياً ومغامراً كـ “لغط موتى” لن تجد قبولا لائقاً في بيئة نقدية تقليدية، بل لا أخفي أنني كنت أتوقع تجاهلا تجاهها، كونها تحفر في تربة غير صالحة لتذوق ما يخالف الذائقة النمطية، لكنني فوجئت بالجدال حولها، لم يكن ذلك الجدال الإيجابي، كونه لا ينطلق من منطقة الرواية التي تغامر فيها، أعني منطقة “الميتارواية”، بل ينطلق من منطقة أخرى بعيدة. من هذه الرواية تعلمت أن كتابة الرواية هي انضباط وصرامة ودقة في الوقت، فهي لا تحتمل الفوضى والعبث والتسويف، ومن خلال قراءاتي في سير المبدعين في أنحاء العالم، عرفت كيف يلتقط هؤلاء شخوصهم وأحداثهم، كيف يرسمون المكان والزمان، كيف يطلقون المخيلة حيناً، ويقفون على الأرض حيناً آخر، تعلمت من حياة هؤلاء كما تعلمت من أعمالهم العظيمة، فصنعت حياتي الخاصة، ورسمت مشروعي الروائي الخاص. ـــــــــــــــــــ شهادة تم نشرها في جريدة الحياة في 21/6/2005م.
0 تعليق