نورج: مدينة الحانات والكنائس* 1/2

يوليو 28, 2012 | مقالات اجتماعية | 0 تعليقات

في محطة “ليفربول ستريت” طلبت شاياً فسألني العامل الهندي بإنجليزية تكاد تخرج مخنوقة من أنفه، عمّا إذا كنت أريد شاياً أسود، وكان يعني بذلك الشاي السادة، غير المضاف إليه الحليب، ساعتذاك عرفت أنه يجب أن أحدّد نوع الشاي، إما أسود أو شاي مع الحليب. كانت المرّة الأولى في حياتي التي أركب فيها قطاراً يشق الطبيعة والشجر والمراعي والدواب والبقر والخنازير والأغنام

وطواحين الهواء وبيوت القرميد. لم يكن الراكب في قطار بين مدن بريطانيا يحسّ بالوقت وهو يحدّق عبر زجاج النافذة إلى المشهد الحيّ، وكأنما هو يطالع مشاهد سينمائية صامتة. كان الراكب المقابل رجل عجوز يغرس نظارتيه في كتاب بين يديه، وفي المقعدين المجاورين الذين يفصلني عنهما الممر، تجلس امرأة ثلاثينية تقرأ أيضاً بصمت في كتاب، يبدو أنه رواية ما، بينما طفلها في السابعة تقريباً ينهمك في شاشة لعبة الفيديو اليدوية الصغيرة. لم أكن أقرأ لحظتها، إذ يكفي لزائر غريب يكتشف المكان للمرة الأولى أن يقرأ تفاصيل المكان ووجوه القرى والريف الإنجليزي. كنت أتأمل وأفكر بمن حولي وهم منهمكون بالقراءة، وأتذكر نسب الأمية في العالم العربي، وأتخيّل نسب الأمية الثقافية أيضاً، فكم من العرب من يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم يتوقفون عند كتب المقرّرات المدرسية والجامعية. في “نورج” سأهتدي إلى مكتبة رائعة في وسط المدينة، وسأرى كيف تتوزع إلى أقسام وأجنحة ودورين مكتنزين بالكتب الرائعة. كان بجوار كل قسم يتوفر مقعد أو مقعدين، إذ يجلس مرتاد المكتبة ويقرأ جزءاً لا بأس به من الكتاب، لكي يقرّر إقتنائه أو إعادته إلى الرفّ. فلا يمكن أن يقتني الإنسان الإنجليزي كتاباً لن يقرأه، ولن يقرأ كتاباً لا يغريه في متابعة صفحاته، واللهاث وراء كلماته التي تجلب المتعة.

مدينة الصمت والخذلان   شوارع مدينة “نورج” نهار الأحد، يوم وصولي، كانت شبه مهجورة. شعرتُ أنني وصلت إلى مقبرة أو منفى أو معتقل معزول في أقصى شرق إنجلترا. معتقل يُجلب إليه المعتقلون والمنفيون من جهة البحر في الشرق، حيث ملتقى بحر الشمال والقنال الإنجليزي، ويدفعون أسرى عبر مدينة بحرية صغيرة تدعى “قريت يارموث”، ومنها ينقلون في عربات السجن المغلقة إلى مدينة “نورج”. كنت أبحث في الشوارع عمّا يبهج، ولكن كانت الكآبة تملأ الطرقات والشوارع. كان الصمت والكآبة أيضاً تهطلان من السماء فيما يشبه ندف الثلج، فوق البنايات والكنائس والتماثيل وفوق وجهي أيضاً. كنت كل فينة أمسح وجهي بكفيّ ثم أنظر في بطنهما، فأرى حزناً وافراً له لون السواد. في شارع “آرمس” الصغير، تنتشر المنازل على جانبيه، وتركن بجوارها السيارات، فما يبقى من الشارع يسمح لمرور سيارة واحدة بصعوبة. وقف السائق عند رقم أبيض كبير”79″، وعند باب البيت وقفت السيدة “جين”، ففتح السائق مؤخرة السيارة وسلمني حقيبتي، فدفعت باب الحديقة الخشبي القصير، ثم دلفتُ وهي ترحّب بي بابتسامة مجاملة. جاء من خلفها رجل ضخم، رحَّبَ بآلية وهو يحمل حقيبتي، ويصارع بها سلم الدرج الضيّق، صاعداً إلى الدور العلوي. كنت أظن أنني سأكون في الدور الثاني، لكن السيدة “جين” قادتني إلى غرفة علوية وحيدة في دور ثالث. لم يكن هناك دور ثالث، فقط كان الدرج العلوي يقود إلى هذه الغرفة الصغيرة. كان سقف الغرفة هرميّا، وفيه نافذة زجاجية تنفتح للأعلى، ويمكن من خلالها النظر إلى رؤوس المنازل القريبة، والحدائق المحيطة بها، وحبال الغسيل البلاستيكية بالمشابك الملوّنة. لا أعرف كيف تذكرت فجأة الخادمات الأندونيسيات حين يقدمن لأول مرة من أجل العمل في دول الخليج، وكيف يشعرن بالوحدة القاتلة وهن يذهبن إلى النوم في غرفهن العلوية في السطوح. لم أعد الآن معتقلا أو منفياً بل تحوّلت إلى عامل أو خادم أو سائق بنغالي أو أندونيسي يقيم لدى أسرة إنجليزية. كان الوقت عصراً، فقرّرت أن أخرج من المنزل كي أتجوّل، وأقتل الوحدة التي انتابتني، أو بالأقل لأخدّر مؤقتاً هذه الوحدة والكآبة، فاعترضتني السيدة “جين”، وأعطتني مفتاح الباب الخلفي المطلّ على الحديقة، وهي تؤكد عليّ بأن أحافظ على المفتاح من الضياع، وأن أقفل الباب حال دخولي، ثم كرَّرَتْ عليّ رقم المنزل واسم الشارع كي لا أنسى العنوان عند العودة. هل كنت أشبه عقلة الأصبع كي أرمي الحبَّ خلفي في غابة الإنجليز لأتمكن من معرفة الطريق عندما أعود، وهل ستأتي نعامة الملل والسأم لتلتهم حبوبي المرميّة في الطريق، فلا أعرف طريق العودة خلفاً، ولا أعرف طريق الأمام، ولا أعرف وصفي ولا اسمي، فأكون ضالا وتائهاً حقيقياً في مدينة غريبة. وجدت في الركن بقالة صغيرة، فدلفت مثل يربوع صحراويّ غريب، واقتنيت علبة عصير صغيرة، بهدف أن أحصل على عملة جنيهات معدنية، كي أستخدمها في كابينة الهاتف. قمت باتصالات على أمي وزوجتي، وشممت رائحة العبرة تخنق صوتيهما.

جامعة “إست إنجليا”   تعرّفت على صديق اسمه محمد أخذني في جولة على المدينة، وكنت ذاهلا وقانطاً من فراغ شوارع وساحات “السيتي سنتر” من الناس، كنتُ محفوفاً بالوحشة، لكنه ذكر لي أن اليوم إجازة نهاية الأسبوع، وفي الغد نهار الإثنين ستكون هذه الشوارع حافلة بالبشر والمتنزهين. خرجنا من وسط المدينة تجاه جنوبها الغربي، ومن شارع “بلو بل رود” المنطلق من منطقة “إيتون” دخلنا إلى مبنى جامعة “است انجليا”. أوقفنا السيارة ومشينا داخل الجامعة. كانت التلال الخضراء تلفت النظر، وقد فاجأتني وفرة الأرانب الطليقة وهي تتخاطف أمامنا كالقطط، علقت بأن هذه الأرانب لو كانت في بلادنا لنثر أشلائها رصاص القنّاصة. كان كل شيء يعيش بطمأنينة بالغة: الأرانب تتراكض بين التلال والجحور، والإوز يعوم حرّاً في البحيرة، والحمام ينتشر في الأسواق، وهو يحطُ فوق مساند كراسي الإنتظار، ثم يركض على الأرض وينقر الحبّ بين أقدام المتجوّلين، أما الكلاب فهي تتمتع بدلال وتقدير مذهل، من قبل العجائز والنساء والأطفال والرجال. كانت مساحة جامعة “است إنجليا” ضخمة، وتنتشر فيها مباني القاعات والأقسام والملاعب والسكن. في الصالة المغلقة كان شباب سعوديون يلعبون كرة القدم كل مساء أحد. وفي إحدى قاعات الجامعة الواسعة تقام خطبة وصلاة الجمعة للمسلمين، وصلوات التراويح في ليالي رمضان. كان نظام الجامعة لا يسمح بدخول السيارات في المساء فقط، لذلك يوقف المصلون في ليل رمضان سياراتهم في المواقف الخارجية، ويمشون مسافة سبع أو عشر دقائق تجاه قاعة الصلاة. كان رجال الإمن الإنجليز في مخارج الجامعة يتعاونون مع السيارة التي تحمل عدداً من الركاب، ويجعلونها تدخل حتى في المساء شريطة أن ينزل الركاب، ويعود السائق خارجاً بسيارته إلى مواقف السيارة الخارجية. ذات ليل دخل مجموعة شباب ملتحون من أجل الصلاة، لكنهم أوقفوا السيارة في الداخل، ولم يخرج بها السائق تبعاً لنظام الجامعة. في المساء التالي وقف السائق ذاته، بالركاب ذاتهم أمام رجل الأمن الإنجليزي، فلما تأملهم ملياً، سأل السائق: “ألستَ مسلماً؟” أجاب السائق: بلى!! قال له رجل الأمن متأسفاً: “المسلم لا يكذب، صح؟”. وافقه السائق وهو يشعر بخجل من نكثه بالأمس وعد الخروج بالسيارة.

 نساء يتبعن الكلاب!! في المجتمع الإنجليزي من الصعب إقامة علاقة دائمة، سواء مع الأجانب، أو حتى بين الإنجليز أنفسهم، لذا وجدت أن معظم المنازل لا تضم سوى امرأة فحسب، أو رجل فقط، وأحياناً امرأة ورجل معاً، فلم يكن النظام العائلي الكبير في العالم العربي معروفاً لديهم. لذلك كانت السيدة “جين” فرحة كثيراً، وهي تطلعني على مجموعة صور داخل صورة واحدة، إذ قامت بقصّ دقيق لبعض الوجوه من صور متعدّدة، وألصقتها بجوار بعضها، لتكوّن صورة كبيرة مزدحمة بالوجوه، وكأن فقدان العلاقة بين هؤلاء الأقارب، وشتاتهم في الواقع المعاش، جعلها تجمعهم -على أقل تقدير- على هذا الورق المقوّى. ولم تكن الرابطة بين الرجل والمرأة تفضي بالضرورة إلى زواج، بل يكفي أن يكونا مجرّد صديقين، تستضيفه المرأة في بيتها أثناء عطلة نهاية الأسبوع، ويفعل هو مثل ذلك معها. بعد مرور يومين من الأسبوع افتقدتُ الرجل الضخم الذي نقل أغراضي إلى الغرفة العلوية، وسألتُ الإماراتي الذي يسكن معي لدى العائلة، عن زوج السيدة “جين”، فضحك طويلا، وهو يخبرني أنه وقع في نفس الوهم أول إقامته لدى السيدة، لكنه عرف فيما بعد أنه صديقها، ينام معها في عطلة نهاية الأسبوع، ثم يختفي عنها منهمكاً في عمله وحياته الخاصة، وكذلك هي في عملها كممرضة في مستشفى “نورج” العام. خارج مبنى المدرسة تظهر حديقة صغيرة بجوار شارع صغير يفضي إلى مواقف المدرسة، وعند تجاوزه يصل السائر إلى مركز تجاري واسع، يضم بالإضافة إلى “سوبر ماركت آزدا” بعض محلات صغيرة من مطعم ومكتبة قرطاسية وتحف وغيرها. في الباحة بين هذه المتاجر الصغيرة تنتشر عجائز متقاعدات عن العمل، يقدن كلابهن خلفن، وأحياناً تقودهن الكلاب إذ يمشين خلفها مستسلمات وهن يمسكن بالحبال الجلدية. في محل المكتبة والتحف الصغيرة لا تكف الطالبات اليابانيات عن شراء العديد من العرائس الصغيرة، والدببة الجلدية في حجم ميدالية مفاتيح، وأختام عبارات الحبّ والشوق والفقدان.   جنيات يحرسن المدينة   مدينة “نورج” داخلية، لا تطل على البحر، رغم أنها على مسافة أميال قليلة من ملتقى بحر الشمال والقنال الإنجليزي، بحيث يصل سائق السيارة في ظرف نصف ساعة، إلى مدينة بحرية صغيرة في الشرق منها، إسمها “قريت يارموث”، ويختزل اسمها في شطره الأول إلى “قت” لتصبح “قت يارموث”. كما يحيط بمركز ووسط مدينة “نورج” شارع دائري صغير اسمه “سيتي لينك رود”، ويتفرع منه عدد من الطرق التي تؤدي إلى المدن المجاورة، ففي الشمال جهة المطار، ينطلق طريق إلى “كرومر” و”نورث ويلشهام”، وفي الجنوب يفضي طريق “إبسويتش رود” إلى “إبسويتش”، كما يقود طريق “نيو ماركت رود” إلى كامبرج ولندن. في الشرق ينطلق طريق متعرّج إلى مدينة “قت يارموث” البحرية، بينما في الغرب يقود الطريق إلى “كينجس لن”. يقطع هذه الطرق جميعاً في شكل دائري يحيط بالمدينة طريق “رنق رود” وهو ذو حلقة أكبر من “سيتي لينك رود”. كما تكثر في مدينة نورج الميادين الصغيرة، والواحد منها عبارة عن “دوّار” صغير يربط بين الشوارع عند التقائها، كبديل سريع وعملي لنظام الإشارات الضوئية، خاصة مع إحترام السائق الإنجليزي لحق الآخرين في العبور، وذلك بوقوفه الإجباري عند الدوّار، حتى يتأكد من عدم وجود أي سيارة أخرى داخل الدوّار، فيعبر داخلا إلى الدوّار حتى يحظى هو بحقه في الإلتفاف. هذا النمط يختلف جذرياً عن قيادة السيارة في ميادين “الرياض”، التي تتطلب شراسة وانقضاضاً على الدوّار حتى يقف مذعوراً من يلتف بسيارته بسلام داخل الدوّار. لم يكن الشجر الضخم الذي يظلل شوارع “نورج” شيئاً عادياً بالنسبة لي، خاصة مع غروب الشمس في فصل الخريف، إذ تبدو الأشجار العارية الضخمة مثل جنيات يحرسن المدينة، وذلك في شارع “أنثانك رود”. كما تكثر الكنائس والحانات في “نورج” بشكل لافت، مما يجعل الزائر يلحظ أن بجوار كل كنيسة حانة، لدرجة أن العجوز الهولندي “هانك”، الذي عشتُ في منزلة قرابة شهرين، كان يقول لي أن أهل “نورج” مختلفون حول هذا الأمر، إذ يرى المسيحيون الكاثوليك أن المؤمن المدمن على الحانات، يجعله قربه من الكنيسة مستعداً للندم والتوبة، بينما يرى آخرون أن دخولهم إلى الكنيسة يحتاج منهم أن يدلفون الحانة حتى يطيرون بأحلامهم بعيداً عن سطوة الكنائس. كانت مدينة “نورج” تعدّ المدينة الثانية بعد لندن من حيث عدد الكنائس، وتحظى بكاتدرائية ضخمة وعريقة تقع على شارع “كاسل ميدو”، بحيث يجاورها مبنى القلعة. رغم أن مبنى الكاتدرائية يوحي بالقدم والمهابة، إلا أن المتأمل لمبناها العتيق لا يشعر أنه مرّ عليه أكثر من خمسة قرون، وأنه خضع لعمليات هدم وحرائق، وتعرّض لحروب بين الحكام والراهبان، كما حدث في عهد هنري الثامن. كانت تصطف على الجانبين أعمدة ضخمة قبل الوصول إلى المذبح، وتزدهر نقوش وأشكال ملائكة ترفرف بأجنحة، وتماثيل لمريم العذراء. أذكر أن أحد الزملاء العرب كان يسكن لدى أسرة، وتصاحبه السكن فتاة برازيلية جميلة، يذكر عنها تديّنها الشديد، فلا يمكن أن تقيم علاقة عابرة مع شاب، وهي لا تتأخر عن القداس يوم الأحد. أما العجائز من النساء الإنجليزيات، فهن يعتنين بأنفسهن لدرجة أن يشعر المرء أنهن متصابيات كثيراً، وهن يتعبن على أجسادهن ووجوههن، ليس ذلك فحسب، بل أن بعضهن يتقمصن تصرفات المراهقات في اللبس والشكل، ففي أوخر الصيف وبدء البرد، يكون الإنسان متردّدا إزاء الملابس، فلا يعرف عمّا إذا كان يفترض أن يلبس قميصاً خفيفاً بلا أكمام فقط، أم يحتاج أن يلبس كنزة صوفية فوقه. كان الإنجليز عموماً، خصوصاً الفتيات والشباب يلبسون كنزة صوف أو بالأقل قميص بأكمام طويلة، وحين يشعرون بالحرّ، يخلعون الكنزة أو القميص ذا الأكمام، ويربطونه حول أوساطهم، بحيث يكون القميص في الخلف، يغطي المؤخرة، بينما الأكمام تربط ببعضها حول البطن. هناك بعض العجائز المدرّسات يدلفن الصفّ بطريقة وضع القميص ذاتها، وهن يتضاحكن وكأنما يشعرن بأنهن صغيرات ومراهقات. كلما تذكرتُ هذه المشاهد أحزن على أمهاتنا النجديات اللاتي يشعرن بأنهن عجائز في سنّ الثلاثين أو الأربعين على أبعد تقدير. كان هذا الشعور يكرّسه الرجال حولهن، وهم يتندرون ويسخرون منهن كعجائز، مفسحين لأنفسهم فرصة الزواج بفتيات صغيرات في أعمار بناتهم، أو أصغر أحياناً. كنت أشعر أحياناً أن هؤلاء الأمهات والجدّات في نجد تحديداً لم يعشن حياتهن كأي نساء أخريات في العالم. كنّ يعشن خادمات مخلصات للرجال، ثم ينهمكن برعاية وخدمة الصغار، قبل أن يتحولن إلى جثث مهملة في إحدى زوايا البيوت.   “سيتي سنتر نورج”   وسط مدينة “نورج” تظهر محلات مسقوفة بالأشرعة، وتبيع سلعاً رخيصة، من الملابس ومفارش السرروالخضار والفواكة، وحتى الكتب الجديدة والمستعملة وأشرطة الفيديو والكاسيت وغيرها. يسمى مجموع هذه المحلات في الساحة “ربش ماركت” وهي تعني السلع التي تشبه النفاية، لرداءة صناعتها، وتواضع احتمالات جودتها. عرب وهنود وإنجليز معدمون يتجولون في هذا السوق، يشترون بمبالغ ضئيلة في حدود قدراتهم الشرائية. هناك يمكن أن يجد المتجوّل نوعيات من الإنجليز، يعتبرون أناس الشوارع، سواء بملابسهم القذرة أو أشكالهم المهملة، وهم إما يتجولون بين المحلات المظللة، أو يكونون هم من الباعة البسطاء. كنت مع صديقي محمد نتنزه في المحلات الرخيصة، وحين أطال صديقي تفحّص بنطلون جينز، باحثاً عن اسم دولة تصنيعه، أثار البائع الإنجليزي الضخم، بملابسه المتسخة، مما جعله حالما سأله محمد عن مكان صناعته يتفوّه بشراسة ولؤم وازدراء وهو يقول: “مصنوع في الشرق الأوسط”. كان محمد ينوي أن يجادله بسخرية أكبر، لكنني سحبته من ذراعه، وغادرنا السوق، بعد أن اقتنيت جهاز تسجيل رخيص، ورواية “أوليفر تويست” للإنجليزي ديكنز، بغلافها السميك. كان الداخل إلى “سيتي سنتر” من جهة الغرب، تاركاً الدوّار خلفه، يجد على يمينه متجر “باوند لاند” وعلى يساره “كيو آند دي”. ثم بضع محلات ألبسة وأحذية، بعدها يكون بنك “باركليز” على اليمين، مشرفاً على زاوية، فيها ماكينة صرف آلي. ثم يظهر على اليسار متجر “ماركس آند سبنسر” بضخامته ولائحة عرضه المغرية. يقابله جهة اليمين محل لتحميض الصور، يأتي بعده عند المنعطف محل “جيسوبس” لبيع الكاميرات والأفلام وأدوات التصوير من ورق وسوائل. كثير من عوائل الغرباء ترتاد محل “باوند لاند” الذي يبيع أدوات وأغراض المنازل بأسعار معقولة. أما محل “كيو آند دي” فهو متخصص في بيع الملابس والأحذية والفرش وأغطية ولحافات الأسرّة والمخدّات وغيرها، وبأسعار معقولة أيضاً للمستهلك العادي، خصوصاً بالمقارنة بمتجر “ماركس آند سبنسر” الباهظ. قبل الوصول إلى محل “جيسوبس” للتصوير يتفرع طريق إلى اليسار، يأتي في نهايته إلى اليسار مطعم “بيتزاهت”، ومن بعده محل شركة “مارتن داوز” المتحدة للأتصالات، حيث اقتنيتُ جهاز الجوّال لأول مرّة. في عمق منطقة “سيتي سنتر”، وفي الجهة المقابلة لسوق المظلات “ربش” الرخيص، يوجد طريق مسقوف لاتدخله السيارات، في طرفه مكتبة رائعة مكوّنة من دورين وأجنحة عديدة، وقبلها على اليمين مطعم ومقهى جميل، بمقاعد وطاولات من الإستنلس ستيل، وزجاج يطلّ على الطريق المرصوف بالأحجار، يقابله محل “جاليري” لعرض اللوحات الزيتية والمائية، وقبل محل اللوحات يبدو على الزاوية محل لبيع أنواع متعدّدة من الحلوى. في الساحة المجاورة يظهر صفّ من الأكشاك المسقوفة، تبيع الحقائب اليدوية ومظلات المطر الملوّنة والتماثيل الحجرية الصغيرة ومحافظ النقود الرجالية والنسائية وغيرها. في طرفها الأدنى محل لبيع “الآيسكريم” والمشروبات الباردة، حيث يصطف أمامه المراهقون الإنجليز مع صديقاتهم، ويأخذون نصيبهم من “الآيسكريم” ثم يجلسون على الجدار القصير لنافورة الماء المزدان وسطها بتماثيل نساء عاريات.

دروس السيدة “جين”   كان من الصعب أن يندمج الغريب مع بلد أجنبي، بعاداته وأنظمته وتقاليده ولغته، وشروط التعامل مع الناس، من أبسطها إذ يتوجب على من يُعرض عليه شيئاً، كالشاي أو القهوة، بأن يجيب بشكل محدّد وواضح: “نعم، من فضلك” أو “لا، شكراً”. كنتُ أجيبُ باختصار “شكراً” حاذفاً كلمة “لا”، فلا تعرف السيدة “جين” إن كنت أوافق على عرض القهوة أم أعتذر. بعد أن علمتني ضرورة أن أحدّد بدءاً “نعم” أو “لا” شعرت أننا في لغتنا العربية نتعامل بطريقة مجازية أو إشارية أحياناً. كان أيضاً من الصعب أن آكل وأنا أمشي في الطرقات، إذ كنت أشعر أن ذلك خطأ تربوياً، وقد يجلب لي نظرات الاستهجان من قبل الآخرين. لكن السيدة “جين” في الأيام الأولى – بعد أن غادر زميلي الإماراتي، حيث صرت أمشي وحدي إلى نقطة إنتظار الحافلة- قالت لي وقد رأتني أنزل مستعجلا من الدرج، وأحاول أن أتناول إفطاري بشكل مرتبك، قالت بأن آخذ فطيرة الجبن معي، وآكلها في الطريق، متجهاً إلى “درهم رود”. رغم برودة طقس “نورج” فيما عدا فصل الصيف، إلا أن الناس تعلموا أن يستحمّوا فجراً قبل الخروج إلى أعمالهم ومدارسهم، مما يضفي نشاطاً رائعاً على الجسد، خاصة وهو يستقبل نسمة هواء باردة، وسماء مكتظة بالغيم الرمادي. لم يكن المطر في “نورج” وفي “بريطانيا” عموماً يحتاج إلى برق يلتمع كل ثوان، ولا رعد يفرقع بوحشية، كما هو في بلادنا، بل حتى المطر إذ يهطل، فإنه يهطل بنعومة فائقة، كأنما يد حانية في السماء تمسح على رؤوس التلاميذ الذاهبين إلى مدارسهم. كان المطر لا يكفّ عن الهطول، مما يجعل فضاء المدينة نقيّاً وصافياً، لدرجة أن أردأ أنواع كاميرات التصوير تنتج صوراً رائعة، بسبب النقاء الشديد في الجوّ. في مدرسة “بوثروب هول” كانت الطالبات يرتدين معاطفاً مطرية، ويتباهين بمظلات المطر الملوّنة والغريبة. وكما كان الطلاب يخرجون أمامهم قواميس اللغة الإلكترونية، وأجهزة المذكرات الإلكترونية، كانت الطالبات، خاصة اليابانيات، يهتممن بأشكال أقلامهن وحقائبهن، فمرة قلم برأس إنسان يلبس قبعة، ومرة حقيبة صغيرة على شكل دبّ قطبي بنّي، فضلا عن الإهتمام والتنافس على أشكال الوشم، على الأكف أو فوق الأصابع وأحياناً على الرقبة أو الذراع المكشوفة. كانت السيدة “جين” تحكي أحياناً عن ولدها الذي خرج ولم يعد مرة أخرى. وعن بنتيها اللتين تزوجتا وغادرتا، وهما تحضران بصحبة أطفالهما أحياناً في عطل نهاية الأسبوع. لم تكن السيدة “جين” وهي في الخمسين بحاجة إلى أن تخفي علاقتها بالرجل الضخم الذي ينام معها في عطل نهاية الأسبوع عن بنتيها المتزوجتين، بل كان يحضر حتى في وجودهما، وأحياناً تعتذر الأم هاتفياً عن استقبالهما، بحجة أنها ستذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى منزل صديقها، لتنام معه. أما بنتها الثالثة فهي تعاني من إعاقة عقلية بسيطة، رغم انها تتدبر أمورها، وتقيم بمفردها في شقة قريبة.

 12 بومبستد كورت   بعد أن ودّعت السيدة “جين” وانتقلت إلى منزلي الجديد، شعرت بالراحة والإستقلال، إلا أن مشاغبات مراهقي الحيّ الإنجليز كانت تؤرقني، ففي كل صباح أجد بقايا البيض السائلة تلتصق على زجاج سيارتي. بل أن الأمر وصل مرة إلى أن فزعتُ على خبطة عنيفة هزّت زجاج نافذة الصالة المطلة على مواقف السيارات، فرفعت الستارة بخوف وحذر، ورأيت السائل الأصفر للبيضة وهو ينزلق ببطء على زجاج النافذة. لم أكن أعرف آنذاك، ولم أجد تفسيراً لهذا العداء لدى الإنجليز تجاه الغرباء. كنت أواجه تلك التحرشات بالصمت، خاصة وأنا أشعر أن هؤلاء المراهقين هم أبناء شوارع، إذ كنتُ ألمحهم من وراء ستارة غرفتي العلوية، وقت ما بعد الظهيرة، قبيل أن أضع رأسي لأنام، وهم يتخذون من زاوية المواقف مكاناً لتجمهرهم. كنت أشاهد أحياناً ثلاثة أولاد مراهقين، وهم يقفون بدراجاتهم الهوائية، متحلقين برابعهم وهم يحدّقون به منهمكاً في قبلة طويلة لبنت مراهقة تصحبهم دوماً في تنقلاتهم داخل الحي. كان الأمر أكثر صعوبة بوصول أطفالي الثلاثة، الذين قد يفهمون مثل هذا السلوك، مما يضطرنا، أنا وزوجتي، إلى تجنيبهم رؤية مثل ذلك، حيث صرفنا الكثير من الوقت لإبعادهم عن رؤية مثل هذه المشاهد غير الأخلاقية. لعل هذه المسألة تزداد حول رغبة مشاهدة أفلام السينما التي تناسب الطفل، إذ أن جزء من رحلة طويلة كهذه أن يتمتع الصغار والكبار بمشاهدة السينما، وما توفره من فضاء بصري ونفسي مذهل. في مدينة نورج يخصص نهار الأحد، تحديداً صباح الأحد، لأفلام الرسوم المتحرّكة الخاصة بالأطفال، فكان أن قرّرنا حضور ومشاهدة فيلم “بقز لايف” في سينما “آي بي سي”. كان يوماً مذهلا، إذ حضر العرض حشد من الأطفال، لا يمكن أن تسمع منهم أثناء العرض صوتاً أو بكاءً أو نفَساً. تذكرتُ على الفور عرض مسرحي فرنسي للأطفال حضرته منذ سنوات في “أبوظبي” أثناء معرض الكتاب الدولي، وأدهشني كيف يمرّ الأطفال أمام الآخرين وهم في وضع الركوع الصامت، منعاً لإثارة الجلبة والبلبلة والتشويش على متابعي العرض المسرحي. كنت لحظة ذاك مسكون بالدهشة من إحترام هؤلاء الأطفال الأجانب لحقوق الآخرين والحفاظ عليها، وأنا أتذكر حال الأطفال العرب. كما ورد في ذهني العرض الموسيقي والأدائي الصامت للفنان موتسارت في مسرح نورج، الذي حضره معي ما يقارب ألف مشاهد، وكنت كأنني الوحيد الذي يشاهد العرض لهول الصمت المحيط. وهو ما لا يمكن أن تجده في أي بلد عربي، أثناء عرض مسرحي لا تكفّ أجهزة الهاتف النقال عن الرنين، أو ما يشوب محاضرة عربية ما من دق المحاضر سطح الطاولة بأصابعه كل فينة آمراً الحضور ذا الثرثرة بالصمت والإنصات.

 حفلات المساء   لم تكن مدرسة “بوثروب هول” تتأخر عن إقامة حفلات في نهاية كل دورة تدريبية، وكان أن تحوّلتْ، ذات مساء، الصالة التي تتاخم المطعم إلى قاعة إحتفال مزدحمة بالمقاعد، وقد أصبح الطالب الياباني “ياوتشي” ممثلا في ليلة الإحتفال، بينما ثلاث مدرّسات يقمن بدور عاشقات له، وهن متنكرات بزي غريب، ويفتعلن أصواتاً غريبة، بينما ربطت عيناه بعصابة سوداء كي لا يرى، ويتم سؤاله عن السيدة التي تحادثه، من تكون من بين المدرسات، وأحياناً كانت إحداهن تمسك بيده وهي تتحدّث، وتتجوّل به على ساحة العرض. قبل أن أصل إلى هذه البلاد كنت أنظر بإعجاب وتقدير للشعوب المتقدّمة، تلك الشعوب التي حققت قفزات إقتصادية وصناعية، لدرجة أنني كنت أظن أن أي إنسان ياباني هو مثقف ومنجز بالفطرة، وهو كما أجهزة الحاسوب مزدحم الذاكرة بالمعلومات والمعارف، لكن كل ذلك كان وهماً بعد أن قرَّرَتْ إحدى المدرّسات في بدء الدراسة، أن توزّع طلاب وطالبات الصف إلى مجموعات قطرية متجانسة، على أن تستعرض كل مجموعة من بلد ما، تقاليد وثقافة هذا البلد، لتقوم المجموعات الأخرى بطرح الأسئلة حول ذلك. أذكر أنني طرحت عدداً من الأسئلة عن الثقافة التقليدية في اليابان، كملابس الكيمونو للنساء، ونمط قصائد “الهايكو” وأعمال السينمائي العالمي “أكيرا كيروساوا”، دون أن أجد إجابة شافية وواضحة عن هؤلاء، وهم شاب عشريني اسمه “ياوتشي”، وفتاة في الثلاثين اسمها “ماقومي”، وشاب ثالث لا أتذكر اسمه. قرّرت المدرِّسة أن تدوّن أسئلتي وقد شعرت بدهشة وشكّ، دهشة أن يسأل غريبٌ أهلَ بلد ما، فلا يجد لديهم إجابة شافية، وشك أن تكون أسئلتي خاطئة أو مختلقة أصلا. في اليوم التالي جاءت طالبة يابانية من الصفوف المتقدمة في دراسة اللغة الإنجليزية، وشرحَتْ لنا كل ما سألتُ عنه، لدرجة أنني طلبت منها أن تقرأ لنا من ذاكرتها بعض قصائد الهايكو القصيرة، وذلك بلغتها الأصل، أي اللغة اليابانية، لأكتشف كمّ الإيقاع المذهل فيها، فضلا عن الرؤية العميقة التي أعرفها من قبل، عبر قراءاتي العربية، أو الإنجليزية فيما بعد. هذا الموقف أشعرني أن الحضارة التقليدية اليابانية معرّضة للزوال تحت سيطرة النموذج الغربي في الملبس والمأكل والمشرب، لدرجة أنني أذكر كيف كان “ياوتشي” يلبس القلائد والأساور بالطريقة الغربية عينها، وكذلك كانت “ماقومي” تهتم بمسألة الوشم، وقد زارت لندن مراراً كي تضع الوشوم في مناطق متعدّدة في جسدها. كما أن الإنجليز الذين كنت أظن أنهم جميعاً قرأوا “تشارلز ديكنز”، والشاعر “فيليب لاركن”، أو حتى الشاعر المعاصر “تيد هيوز” الذي توفي خلال وجودي هناك، إلا أنه تبين لي أنه ليس بالضرورة أن يكون كل هؤلاء قرَّاء، بل حتى القارئ منهم قد لا يحب قراءة الأدب مثلا، بل يقرأ في العلوم المتنوعة، أو في الفلسفة أو في التاريخ وغيرها.

الأسكوتلندي “جوناثان” و”سافو”   كان من مبادرات مدرِّسة إنجليزية حاصلة على ماجستير في الأدب أن اقترحت على من يرغب، من طلاب وطالبات الصف، بالكتابة في أي موضوع يعشقه، بأن يقدّم لها أسبوعياً مقالا أو موضوعاً جديداً، كنشاط اختياري، وغير أساسي أو اجباري. كثير من الطلاب والطالبات، من اليابان وأمريكا اللاتينية، كانوا حريصين على الكتابة، وتعلم أصولها وفنونها. أما الطلاب العرب، الخليجيون والليبيون فلم يبادر أحد منهم بالكتابة سواي. لدرجة أن أحدهم قال معلقاً في فترة استراحة بين الحصص، أنه غير قادر على الكتابة باللغة العربية، فكيف بالإنجليزية، وآزره آخر مؤكداً أن أسوأ مواد الدراسة في الصغر كانت مادة التعبير، إذ كان يترك ذلك لأخته التي تحلّ له واجب التعبير. أكد الأول أن البنات هن أفضل من يكتب موضوعات التعبير. إتفقا على ذلك في محاولة إهانتي – حسب وعيهم – بأن أنشطة النساء هي في المطبخ والتعبير بكلمات رومانسية. كانا يشعران أنهما يقدمان على شتيمتي، إذ أن وصف الرجل بإمرأة تعد – في أعرافهم – أسوأ من وصفه بحيوان مثلا. ظللت أكتب شعراً قصيراً بالإنجليزية بعد أن قرأتُ بعض تجارب قصائد “الهايكو” الإنجليزية. كنت أكتب ما يشبه محاكاة هذا الشعر. لم تكن تشعر بالدهشة فحسب، وهي تراجع ما أكتب من خربشات في خريطة الشعر، بعدما أدمنتُ المكتبة في “سيتي سنتر”، لأقتني كل مرة كتاباً جديداً، وأقرأ فيه بصحبة قواميس اللغة، من القاموس الإلكتروني السريع، وحتى قاموس “إكسفورد”. بل أنها قدّمت لي عرضاً رأيته ساذجاً لطباعة ما أكتب بالإنجليزية في كتاب، وقد سألتني عمّا إذا كنت أكتب شعراً بالعربية، وما إذا كانت تلك القصائد هي ترجمات لذلك الشعر. لم تخدمني كتابة القصائد في تعلم مهارة الكتابة فحسب، بل أنها قدّمتني بشكل رائع إلى مدرسة “أولد هاوس” في شارع “تشرش لين”، إذ استقبلني طاقم التدريس هناك كشاعر جيد من حضارة أخرى، وتمّت توصية المدرّس الشاعر الأسكتلندي جوناثان عليّ، إذ استضفته فيما بعد في بيتي، ثم دعاني إلى بيته بعد أن تحدثتُ معه طويلا عن شعراء اليونان القدماء والجدد، وأبديت إعجابي الشديد بالشاعر يانيس ريتسوس، وقسطنطين كافافيس، والروائي نيكوس كازانتزاكي، وعرّفني في بيته الصغير في منطقة “إيتون” على زوجته اليونانية. بعدما قرأ لي بعض التجارب البسيطة، وأطلعني على قصائده القديمة، مؤكداً توقفه عن الشعر، نصحني بقراءة الشاعرة اليونانية القديمة “سافو”. وظلّ في كل لقاء يتحدث عن قصيدتها “الراعي والنجوم” وهو يشعر بمتعة نادرة آن يتلو مقاطعها الأخيرة. بعد أن انهمكتُ بالدراسة الجادة، التي تتطلب مني حفظ الكثير من المفردات أسبوعياً، انشغلت عن الصديق جوناثان، ولم أعد أراه في المدرسة، إذ كان يعمل مدرّساً متعاوناً يقدّم حصصاً قليلة في يوم واحد فقط من الأسبوع. لم يكن الكرم نمطاً حياتياً لدى الإنجليز عموماً، إن لم يكن البخل أو التقتير صفة واضحة فيهم، فأذكر أن صديقي “جوناثان” حين زارني في بيتي قمتُ لأصنع له كأس شاي، وتبعني مثرثراً إلى المطبخ، وقد ظلّ يشكرني على كأس الشاي حتى خرج، دون أن أشرح له كيف ينحر الناس الخراف لأجل ضيف واحد، حتى يملأ عينه بالسفرة، ويشعر بتقدير مضيفه له. لو كنت شرحت له ذلك لجزم أن ذلك ضرب من ضروب الجنون، وأزمة نفسية يعيشها الإنسان العربي، كما كان يحاول دائماً ربط سلوك الإنسان بحالته النفسية. عندما كنت أعيش في منزل السيدة “جين” كانت تظن أن بعض السلوك الذي آتي به مردّه أزمة نفسية، وحاولتْ أن تشرح لي بصبر وأناة عبر قاموس اللغة بعض تصرفاتي. أذكر أن حرصي على أن لا يبقى الحذاء أو النعل مقلوباً جعلها تربط ذلك بوسواس قهري في النظافة، رغم محاولتي إفهامها أن ذلك من عادات الشعوب، إذ نرى أن وسخ النعل يجب أن يبقى باتجاه الأرض، حيث الشيطان، ولا يبقى متوجّهاً إلى السماء.

 

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *