الهولندي “هانك”
بعد خروجي من منزل “12 بومبستد كورت” سكنتُ في “كولمان رود” مع رجل هولندي عجوز، اسمه هانك جاكوبس، بعدما عثرتُ على إعلان عرض غرف للإيجار، في جريدة محليّة في “نورج” من نوع “تابلويد”. إذ قدّم أسعاراً تشجيعية لغرفة مفردة بلا وجبات.
كان الهولندي هانك الذي تزوّج لثلاث مرّات، الأولى هولندية تركها في هولندا بعد أن هاجر إلى بريطانيا بغرض التجارة، وقد أنجبا ولداً عمره الآن في الثلاثين، أما الثانية فكانت امرأة يابانية أنجب منها طفلة في الرابعة عشرة من العمر. أخيراً تزوّج شابة روسية جميلة، علق صورتها في صالة الجلوس، وقد تركته وسافرت إلى باريس بحجة دراسة الدكتوراه في القانون، إذ كان تكفل بنفقات دراستها وإقامتها في باريس، وقد قال لي ذات مساء كئيب، أنه قال لها هاتفياً بالأمس، لك الحق في أن تعيشي مع رجل آخر حالما تشعرين بحبك له، وسأدعك تذهبين براحة واقتناع. الهولندي هانك كان يكره الإنجليز ويسخر منهم كثيراً، ويقول أن الشخص يشعر بقدوم الإنجليزي على مسافة بعيدة بسبب رائحته العطنة!! رغم أن لديه الكثير من الأصدقاء الإنجليز الذين يسهر معهم في حانة “الجهات الخمس” مساء كل سبت. كان قد حقق نجاحاً باهراً في التجارة، بعد عدد من الرحلات والصفقات التجارية، وكوّن رأسمالا جيداً، ولو جاء شخص – حسب كلامه- وقال له أنك ستفلس وستضطر إلى تأجير غرف بيتك لطلاب غرباء، لقلت له أنك مجنون أو أحمق!! كان هانك رجل متقاعد عن العمل والتجارة، ويعيش بمبلغ شهري ضئيل، وهو يسهر في الليل أمام التلفزيون، مما يشجعني على السهر معه، والحديث الطويل في شؤون الإقتصاد والسياسة، وقد زار دبي منذ زمن، وكان يظن أنها مدينتي حسب وصفي لموقع بلدي. ذات مساء قال لي أن خساراته الفادحة والمتتالية في سوق الأسهم الأوروبية جعلته يلازم المستشفى لأكثر من شهر، بسبب اضطراب عقلي. كنت شككت بترجمة الكلمة، لكنني استخرجت قاموس اللغة، واكتشفت أن الرجل كان تعرّض لمشكلة عقلية، رغم أن من يجالسه لا يشعر حالياً بأي شيء من هذا القبيل. لم أخف من هذا المأزق الصحي القديم لديه، بل أن طبيب وطبيبة صينيين سكنا معنا لاحقاً، واتخذا الغرفتين العلويتين بجوار غرفته، بينما كانت غرفتي في الدور الأرضي، وبجوار الباب الخارجي مباشرة. لذا أشعر أحيانا بالغثيان لدى تصاعد رائحة الطبخ الصيني في المطبخ، وقد أشرك الطبيبان الصينيان مالك المنزل الهولندي بالأكل، وشعرا بألفة أكبر مما شعرتُ بها، خاصة بعد أن دخلت ذات مساء ووجدته ممدداً على أريكة الصالة، وقد غرزا في جبينه ورأسه وأطرافه إبراً صينية. بعد أن سألني الهولندي مراراً عن مبلغ إيجار الغرفة، البالغ أربعون جنيهاً، عدت ذات ظهيرة من المدرسة وقد سحبت له المبلغ من ماكينة الصرف الآلي. حاولت أن أفتح باب البيت، لكنني لم أتمكن من ذلك، دهشت وقد تأكدت من رقم المنزل، ومن زجاج غرفتي المطلّ على “كولمان رود”، ونظرت في الطريق المحاذي للباب، فوجدتُ سيارته المرسيدس الصفراء القديمة. همزت ضاغط الجرس، ففوجئت به يفتح القفل الداخلي، وينظر نحوي بجسده الضخم المرتعش، وعينيه المضطربتين بغضب طافح، وهو يزعق بوجهي أنني لن أدخل قبل أن يرى النقود في يدي، فأخرجت محفظتي بذعر، وسحبت من جوفها أربع ورقات من فئة العشرة جنيهات، فاختطفها منّي وهو لم يزل يسدّ الباب الموارب، وبعد أن وضعها في جيب سترته، قال لي بأن عليّ أن أحمل أغراضي خلال عشرين دقيقة فقط، وأغادر، وإذا بقيت أكثر بدقائق معدودة فسيبلغ الشرطة بأن لص في البيت. لحظة ذاك جزمت أن الرجل لم يزل يعاني من اضطرابه العقلي، ولم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م قد وقعت بعد، وإلا لحرّض على القبض عليّ، ووضعت كأحد منظمي القاعدة الخطرين، خصوصاً أنني عربي، فضلا عن كوني من بلد تتهم بأن أربعة عشر شخص من إجمالي تسعة عشر شاركوا في تفجير نيويورك هم من جنسيتها. شعر هانك أنني قد أهرب في أي لحظة، خاصة وأنني أفهمته أن هذا الشهر سيكون الأخير معه، بعدما عثرتُ على منزل للإيجار في منطقة “إيتون” تلك المنطقة السكنية الآمنة، والتي يكثر فيها العرب والمسلمون، وتنتشر فيها الجالية السعودية من الطلاب المبتعثين، وهي أيضاً كانت قريبة جداً من مدرسة “أولد هاوس”. أذكر أنني عثرت على إعلان في الجريدة لتأجير منزل “86 أمدرلي درايف” في “إيتون”، وبعد أن اتصلت بمكتب “ميتشلس” العقاري في شارع “كورتيس هاوس” ذكروا لي مواصفات البيت، وموقعه تحديداً وقيمة إيجاره الشهري، فذهبت لرؤيته، وأعجبني. بعد أن أبديت موافقتي بدأت الموظفة في المكتب تتجاهل إتصالاتي بحجج تتعلق بعدم جاهزية المنزل، ثم أكدت أخيراً أن المالك صرف النظر عن تأجير المنزل، وقرّر بيعه. أحسست أن المسألة تتعلق بنظرة عنصرية صرفة، فحواها عدم الرغبة بتأجير المسكن لأي عربي. شرحت الموضوع للهولندي هانك، واقترحتُ أن يقوم بالإتصال بالمكتب، ويسأل عن ما إذا كان متوفراً أي منزل للإيجار في منطقة “إيتون”، حتى نكتشف الأمر. طلبت الرقم له، وناولته سماعة الهاتف، فكانت السيدة تقول له عن المنزل ذاته: “86 إمدرلي درايف”، ثم اعطته كافة التفاصيل والغرف والسعر، وأخذت اسمه. إنطلقت إلى مكتب “ميتشلس” قرب ” السيتي سنتر” وبعد عشرين دقيقة كنت أقف أمامها، وأقول لها أنني السيد هانك الذي هاتفها قبل دقائق بخصوص منزل “86 إمدرلي درايف”. كانت قد تجمدت وقد عرفتني، ثم اعتذرت قائلة أن المالك عاد وغيّر رأيه في مسألة البيع، إذ لم يعثر على مشتر قادر على الدفع!! بعد ذلك أخذتْ مني مبلغاً، وطلبت تعريفاً بالراتب من جهة عملي، فراسلت في الغد الملحقية الثقافية السعودية في لندن، وأنهيت إجراءات المسكن الجديد. بعد أسبوع من خروجي من منزل الهولندي هانك فكرت أن أزوره وآخذ معي باقة ورد، كأسلوب حضاري للإعتذار عن تأخري في سداد أجرة الغرفة، وحفظاً للود مع رجل عاملني كأب لمدة شهرين كاملين، لكن أحد أصدقائي نصحني بأن أترك رجلا مجنوناً، إذ ليس هناك ما يدعو للإعتذار، خاصة وأنه واجه الخطأ بسلوك سلبي وعنصري متخلف جداً. “علي” في “كاربج سيل” في طرف مدينة “نورج” وعبر طرق ترابية ممهدة يقع سوق “كاربج سيل” لبيع الأدوات والأجهزة المستعملة، كأدوات المطبخ من صحون وغلاية ومحمصة خبز، وأثاث منزلي كالأرائك والطاولات والكراسي ومصابيح الأسرّة ولعب الأطفال وعربات دفع الرضّع، وأشرطة الكاسيت وأقراص “السي دي”، وأجهزة التسجيل والتلفزيونات والفيديو، والكتب الرخيصة وغيرها. كان سوق “الكاربج سيل” يعمل في يوم واحد من الأسبوع، وهو صباح يوم الأحد، حيث يتكاثر البائعون والمشترون منذ الصباح الباكر. لم يكن الأجانب يتغيبون عن هذا السوق المنقذ، فهو يمثل حلا سحريّاً لمن يبحث عن تأثيث بيت بأسعار زهيدة. كان يشبه سوق “حراج بن قاسم” في الرياض، ففيه يعثر المرء على أشياء غير متوقعة، وقد يشتري أشياء لم يكن خطط لشرائها. لم يكن “علي” حذراً بما فيه الكفاية وهو يرتاد سوق “الكاربج سيل”، وقد سكن بيتاً جديداً، بعد أن نقل معه أغراض بيته القديم، ومن بينها ستارة من الكتّان الرخيص، ومزيّنة بورود ضخمة. كانت ستارته تلك قد قرّر أن يثبتها على نافذة البيت الجديد، لكنه اكتشف أن صالة البيت لها نافذتان، ولا بد من توفير ستارة أخرى، بنفس درجة اللون والرسوم، أو على الأقل قريبة من التصميم ذاته، فلم يكن أمامه سوى سوق “الكاربج سيل”. حمل الصديق القروي ستارته على كتفه، كي يقارنها بما يتوفر في السوق من ستائر مستعملة معروضة للبيع. بعد أن ظلّ قرابة ساعة وهو يتجول في السوق بستارته المحمولة على كتفه، وبعد أن اعتذر لراغبي الشراء أكثر من مرّة، بأن الستارة معه ليست للبيع، أسندها بجواره عند محل لدية تشكيلة جيدة من أقمشة الستائر، مقنعاً نفسه كحل أخير بشراء قماش مشابه، لتقوم زوجته بخياطتها كستارة نافذة غير متقنة التنفيذ. بعد أن جادل “علي” البائع قليلا حول السعر، أراد الإنصراف، والتفت ليحمل ستارته التي أسندها على مصطبة البائع، ولكن لا شيء!! لم تكن هناك ثمّة ستارة. تلفت “علي” في الأنحاء، يميناً ويساراً، ولكن لم يجد أي أثر لستارته، ونظر في الطريق المؤدي إلى محلات أجهزة التسجيل والأشرطة، فرأى ستارته تهتز فوق كتف رجل ضخم، يلبس “تي شيرت” أسود، ويظهر زنداه المفتولان، فلحق به “علي” وأوقفه مؤكداً له أن هذه التي يحملها على كتفه إنما هي ستارته، وهو لن يبيعها. نظر نحوه الرجل الإنجليزي الضخم بعينين تغليان غضباً، وأشار إليه بقبضته إلى أن ينصرف وإلا تولى أمره. بعد أن وجد “علي” نفسه ضئيلا وغريباً أمام مواطن إنجليزي ضخم الجثة، آثر أن ينسحب بهدوء حسيراً ومقهوراً. ثم ركب سيارته الخردة التي اشتراها من عجوز باكستاني الأصل، بريطاني الجنسية، وانطلق شاعراً بغصّة في حلقه، يكاد يبكي لشدّة ما يعاني آنذاك من اضطهاد واستغلال وشعور بالمهانة، دون أن يملك أن يعمل شيئاً، يدفع به الإضطهاد والإهانة. في البيت، وحفظاً لكرامته، لم يذكر “علي” لزوجته القصة التي تعرّض لها، لكنه قال لها أنه لم يجد اللون ذاته، ولا التصميم المشابه، فاضطر إلى أن يبيعها في السوق، فتخلص منها بسعر زهيد، ثم عاد خالي الوفاض.
أزواج عرب وشقراوات كان أسمراً ووحيداً، يعيش في ناحية من “نورج” في بيت بالإيجار، ويزوره أطفاله الثلاثة من طليقته الإنجليزية في عطل نهاية الأسبوع، ثم يبقى وحيداً خلال أيام الأسبوع كله. كان ثابتاً وباقياً وزملاؤه الطلاب متغيّرون ومتنقلون، ما أن يتعرّف على أصدقاء ويقدّم لهم خدمات مقابل مبالغ بسيطة، حتى يغادرون إلى مدن بريطانية أخرى. جاء منذ خمسة عشر عاماً طالباً مراهقاً، في عطلة صيف، مع زملاء مراهقين من مدينة الدمام، وبعد دراسة اللغة لثلاثة أشهر، تعرّف خلالها على فتاة إنجليزية ستكون زوجته وأم أولاده، عاد إلى الدمام، وباع سيارته “الكابريس” القديمة، أمام بكاء أمه وتشبثها به، لكنه نكص إلى بلد النهر والفتاة الشقراء، وسقط في حضنها لسنوات، أنجب خلالها ولدان وبنت، وعاد بزوجته إلى الدمام، فلم تتأقلم مع حياة غريبة وبدائية كما تراها، ثم عاشا معاً في “المنامة” كحل وسط، لكن حرب الخليج الثانية قضت على الحلم تماماً، بعد أن جاءت التعليمات للمواطنين الإنجليز بمغادرة الخليج، وكانت الكارثة أن اكتشفت أن زوجها الأسمر، قد منعها من السفر بالتأشير على جوازها، مما كان يعني في عرفها الخيانة والكذب وقمع الحرية، فطلبت تدخل السفارة البريطانية في البحرين، وهربت بالأولاد، وأرغمته لحظة أن لحق بها على تطليقها بسبب استبداده، ليبقى وحيداً في مدينة “نورج” منتظراً ظهيرة الجمعة، كي يستمتع بمرأى صغاره، والتسلي معهم، حتى نهار الأحد. كانت المفاهيم والمبادئ والرؤى والأفكار تختلف بين الرجال العرب، وبين زوجاتهم الإنجليزيات. صحيح أن بعضهن أسلمن ولبسن الحجاب، وقررن في بيوتهن، ولكن يبقى الرجل الشرقي بأفكاره ورؤاه مختلف جذرياً عن الإنجليزي، ومن هنا اختلفت النظرة إلى الحرية، وحدود هذه الحرية، وما إذا كانت حرية مسؤولة أم بلا حدود، كما أن النظرة إلى الكذب تختلف، فما يراه العربي من كذب زوجي كوسيلة إلى الحفاظ على البيت، يراه الغربي حلا مؤقتاً سيقود حتماً إلى دمار البيت. كان ليبيون مهاجرون يعيشون مع زوجات إنجليزيات. كان أشهرهم في “نورج” رجل ليبي يوفر اللحوم الطازجة من مدن مجاورة، بسيارته البيجو الصالون، قبل أن يفتح مطعماً عربياً حقق به بعض النجاح، ورغم أنه أكثر العرب خبرة ودراية بالقانون والأنظمة في بريطانيا، إلا أن وقع في ورطة تعزّز نظرة الغرب إلى أن العرب مجرّد لصوص ومتطاولون على القانون، وذلك بعد أن دخل زميل له ليبي في خلافات دائمة مع زوجته الإنجليزية، فقرّر أن يهرب بأطفاله إلى ليبيا عن طريق فرنسا، فوافق تاجر اللحوم الليبي على تسهيل أمر تهريب صديقه، مقابل جميع مدخراته. في فجر لم تشرق شمسه أخذ الليبي تاجر اللحوم صاحبه وأطفاله في سيارته البيجو الصالون، وانطلق بهم إلى الحدود، حتى أوصلهم إلى مطار شارل ديغول في باريس، فطاروا إلى ليبيا، أما هو فقد عاد وكأن شيئاً لم يحدث. بعد أيام ضجّ جرس بيته، فإذا عناصر من الشرطة، تأخذه من أجل التحقيق، فأصر على أنه لم يرَ صاحبه الليبي المفقود منذ أسبوع، ودوّنت أقواله ووقع عليها، حتى تمّ عرض الفيلم التسجيلي لهروبه بهم إلى الحدود مع فرنسا، وهو في سيارته البيجو، فاعترف، وسجلت ضدّه مخالفة اختطاف أطفال إنجليز، وتهريبه إلى خارج البلاد، إضافة إلى جريرة الكذب في المحكمة بعد حلف اليمين، فحكم عليه بالسجن عشر سنين. رغم الإستقرار والهدوء الذي يعيشه العرب في بريطانيا لسنوات طويله، إلا أنهم يفاجئون الآخرين هناك، بتصرفات غير لائقة، تساعد على تأكيد النظرة العنصرية إلى أن هؤلاء العرب همج وإرهابيون ولصوص وخونة، ويجب التعامل معهم بطرق بدائية وتسلطية. لقد عمل الرجل الأسمر الوحيد، الذي ينتظر أطفاله في العطل، سائق سيارة شحن في بلدية مدينة “نورج”، وذلك بجمع نفايات الورق تحديداً، من أجل بيعها وإعادة تأهيلها للصناعات الورقية. وبعد أن قام الرجل بجولته الصباحية، جامعاً ما توفر لدى الأبواب من بقايا ورقية، صحف وجرائد وكراتين، عاد إلى مكتبه، فما أن دخل وجلس، حتى وجد فوق طاولته ورقة تفيد بأنه لم يجلب معه نفاية ورق المنزل رقم كذا بشارع كذا، الذي يخصّ امرأة انجليزية عجوز، مما اضطره إلى العودة إلى العنوان المذكور في مشوار خاص، كي يتعلم الإحساس بالمسؤولية، من هذه العجوز، بعد أن سُجلت ضده مذكرة لفت نظر. ما كان لافتاً بالنسبة لي، أن العرب لا يمكن لمعظمهم أن يندمجوا كالهنود مثلا في ثقافات الشعوب الأخرى، مما يجعلهم يعيشون في بريطانيا كأقلية غير مرغوب فيها. هل ثمّة خلل في النسيج الثقافي والاجتماعي العربي؟ هل كان الخلل في التنشئة لدى الأسر العربية؟ هل الطفولة العربية تمثل المأزق الحقيقي، الذي يتأسس عليه جيل لا يمتلك مقومات الحوار مع الآخر، ولا يحظى بقدر مناسب من مهارات التواصل الإجتماعية؟ كانت الأسئلة دائماً تجعلني في حيرة، وأنا أرى كيف تصبح الجنسيات المتعدّدة، غير العربية، فاعلة ومؤثرة في نسيج المجتمع الإنجليزي.
الجريدة الصفراء في منطقة “نورفولك” في بريطانيا توجد جريدة صفراء من قطع “تابلويد” اسمها “فري آدز” وتعني الإعلان المجاني، فهي جريدة متخصصة بالإعلانات المبوبة المجانية، إذ يمكن لأي شخص أن يعلن فيها عن بيع أي قطع وأثاث وسيارات عبر الهاتف، بتسجيل معلومات عن الشيء المراد بيعه، ومعلومات شخصية عنه، ويتم تمويل الجريدة الصفراء عبر مبيعاتها عند نقاط التوزيع، إذ يتم بيعها بما يعادل جنيه إسترليني واحد. يمكن لمتصفح الجريدة الصفراء، جريدة الإعلانات المبوّبة، أن يقرأ عن تسويق كل شيء، حتى العلاقات الشخصية والصداقات، بإعلان شخص يبحث عن صديق أو صديقة، يتوفر فيه أو فيها الصدق والأمانة والوفاء وما إلى ذلك، فضلا عن مبيعات الأثاث المنزلي، والأجهزة الكهربائية، وأجهزة الأثاث المكتبي، والسيارات والدراجات النارية، وتأجيرأو بيع المنازل، وتأجير الغرف داخل منازل العائلات، وبيع الحيوانات وأجهزة استقبال البث الفضائي، وغيرها. في هذه الجريدة عثرت على شخص يرغب في بيع جهاز استقبال قنوات فضائية، بعد أن تعذر عليّ أن أجد في المحل الوحيد لبيع هذه الأجهزة في شارع “درهم رود” قرب “الستي سنتر”، وأخذت السيارة مع صديقي محمد إلى منزله تبعاً للعنوان في الجريدة، وما أن وصلنا حتى أرانا الجهاز النائم في رفّ طاولة التلفزيون، وأقنعنا أنه يعمل بشكل جيد، وسيبيعه لأنه اشترى جهازاً آخر جديد. أحضر سلما طويلا جدّاً، وهو عبارة عن سلمين ينفرجان إلى أقصى حد، ويصبحان سلماً واحداً وطويلا، وبدأ يخلع قرص الإستقبال الصغير المثبّت بقائمتي حديد بجدار القرميد الأحمر. بعد أن استلمنا القطع ودفعنا المبلغ الزهيد، أكد محمد ساخراً أن المبلغ المدفوع للرجل الإنجليزي لا يكفي أجرة فكّ القرص العلوي فقط، فضلا عن القرص والجهاز. في البيت اكتشفنا أن الجهاز لا يستقبل شيئاً يستحق العناء، وبعد أن زارني العراقي وليد، أكد أن جهاز الإستقبال جهاز قديم جداً، وهو غير صالح للإستخدام الآن، مقترحاً أن يبيعه بنصف الثمن. وهكذا نقع كغرباء في فخ إستغلال الإنجليز من جهة، واستغلال الأخوة العرب المهاجرين والمرتزقين من جهة أخرى. مدينة “ريدنق” كان عليّ أن أزور صديقاً دارساً في مدينة “ريدنق” قرب لندن، حيث يقيم في منطقة “وودلي”، إذ كان ينتظرني في محطة القطار، قبل أن ننطلق في شوارع المدينة الهادئة للغاية. كانت المدينة تشبه المن البريطانية الأخرى، لكن نهر “التايمز” فيها رائعاً وصافياً وحميماً، إذ كنت أشعر داخلياً أن النهر في “ريدنق” مختلفاً عنه في لندن، كانت أسراب البط البيضاء، بمناقيرها الحمراء، تشكل مشهداً سحرياً في عرض النهر، بل أنها تكون أكثر فتنة وهي تقترب في حشد فاتن صوب حافة النهر، تتخاطف قطع الخبز من الأطفال والعشاق ومرتادي النهر. تتمايل المراكب الشراعية بنعومة بالغة، رغم ما يثيره ماكينات القوارب النهرية من ضجّة مربكة. في الضفة الأخرى من النهر، حيث تتكاتف الأشجار، يقف رجال بسراويل قصيرة، وهم يطوّحون بين فينة وأخرى بسناراتهم في الماء. كانت منطقة “كفر شيم” التي يتمدّد فيها النهر الفضي مثل عاشقة نائمة من أكثر مناطق المدينة رقيّاً، وهي لا تبعد كثيراً عن جامعة “ريدنق”. من أكثر المواقف غرابة هو ما تعرّض له صاحبي في “ريدنق” من قرع عنيف على باب منزله ليلا، مما جعله يهبط سريعاً مرتبكاً نحو الباب، فإذا عناصر من الشرطة تقف بالباب، وتسأله عمّا إذا كان لديه أطفال، فأجاب مواقفاً، فما كان منهم إلا أن دخلوا البيت، وطلبوا إحضار طفله أو طفلته، فقال لهم إنها طفلة في الثالثة من العمر، وهي في الدور العلوي تستعد للنوم!! أكدّوا له أنهم من شرطة حماية الأطفال من العنف الأسري، وقد تلقوا إتصالا من منزله قبل دقائق، جازمين بذكر رقم هاتف منزله. حاول أن يشرح لهم أنه ربما عبثت طفلته بجهاز التلفون، وهمزت عابثة بالأرقام الثلاثة لشرطة حماية الأطفال. رفض رجال الشرطة تبريراته، وطالبوا بإحضار الطفلة حالا، فما كان منه إلا أن حملها، وهبط بها من سلم الدرج، ووضعها بينهم. طلبوا منه أن يخلع ملابسها، فخلعها، وتفحّصوا جسد الطفلة جيداً، حتى إذا لم يجدوا أثراً لعنف أو ضرب أو كيّ، إعتذروا من صاحبي وغادروا البيت. كلما تذكرت هذا الموقف أشعر بمهانة الأطفال العرب الذين يتعرّضون إلى أنواع من العنف والإيذاء الجسدي والنفسي، من ضرب وقمع وإهانة، سواء في البيوت العربية من قبل أسرهم، أو من المدارس من قبل مدرّسيهم، دون أن يحرّك أحد ساكناً، لدرجة أن أصبح العصا والسوط من عناصر المهابة لدى المدرّس والأب. رغم روعة هذا الموقف، وما يوحي به من إهتمام وحرص على صحة وسلامة وحماية الطفل، إلا أن مشهد النساء في نهارات السبت، في منطقة “سيتي سنتر” بمدينة نورج، يجلب الحزن والكآبة، إذ يقدن أطفالهن ذوي السنتين والثلاث سنوات، بسيور من الجلد تربط في صدورهم على شكل علامة الضرب، ويقمن بسحبهم خلفهن كما لو كانوا كلاباً. حين شاهدت هذا الموقف، لأول مرّة، خالطني شعور لا يمكن وصفه أبداً، كنت أشعر بالرثاء نحو هؤلاء الصغار، وبدأت أتخيّل فقدان حنان اللمسة الأبوية التي يفقدها الطفل، وقد تخلت الأم أو الأب عن الإمساك به يداً بيد!! هذا العناق بين يد الأم الدافئة، وبين يد الطفل الصغيرة المتلهفة على الدفء، لا يمكن تعويضه أبداً!! هذا المشهد لم أره في بلد عربي، وإن كان استخدام عربات الأطفال يعدّ أمراً شائعاً في البلدان العربية، وهذا النمط من العربات التي تدفعها الأمهات في الرياض، مثلا، كان بديلا لحمل الأمهات النجديات القديمات أطفالهن، وضمهم إلى دفء صدورهن، فلم يعد الأطفال يشعرون بدفء صدور أمهاتهم وعناقهن أثناء المشي في الطرقات!! قد تحمل الحضارة الغربية لنا في المستقبل بعض السلوكيات الخالية من المشاعر الإنسانية، إذ نسحب أطفالنا أو آبائنا العجزة بسيور جلدية، دون أن نحسسهم بدفء أيدينا وأكفنا وأصابعنا النابضة. مدينة البحر والجبل كانت “قت يارموث” مدينة صغيرة تقع إلى الشرق من مدينة “نورج” الأكبر مساحة والأكثر سكاناً. تلك المدينة الصغيرة لا يشعر المرء بارتفاعها، وكأنما هي تقع فوق جبل، إلا في طرفها الشرقي حيث يظهر البحر في هوّة منخفضة للغاية، إذ تطل على ملتقى بحر الشمال بالقنال الإنجليزي، مما يجعل مرتادي الشاطئ الرملي يهبطون من سلالم درج طويلة جداً، قد تتجاوز مائة درجة إسمنتية ملتوية باتجاه الأسفل. على كورنيش المدينة يتكاثر السيّاح والمتنزهون، وتطل نوافذ الفنادق ذات الزجاج الطولي على ساحل البحر الرملي. بين الفنادق والمباني المشرفة على البحر وبين شاطئ البحر في الأسفل، يمتد طريق كورنيش “قت يارموث”، وتسير فيه دراجات نارية ضخمة وأنيقة يقودها رجال بزنود ضخمة ونظارات شمسية وربطات شعر، كما تكثر في الطريق الألعاب والملاهي المتطوّرة، التي تعجّ بالأطفال والمراهقين، وهم يتنقلون من لعبة هوائية إلى أخرى، ومن لعبة حظ إلى أخرى. مقابل جنيه استرليني يلقي المتنزّه سنارة صيد سمك بلاستيكي عائم كي تربح دبّاً سعره أكثر من عشرة جنيهات، أو عروساً بعشرة سنتات. كما أن الدمى الضخمة المفتوحة الأذرع والفم تجلب الرعب أحياناً قبل أن تحرّض على المتعة والفرح. تتوزّع في الممرات بائعات المشروبات والآيس كريم وصابغات الشعر بعد تجديله بشكل جاذب للنظر، حيث كانت الطفلات يجلسن على كراسي أمامهن، ويتركن رؤوسهن لتلك الأصابع المدرّبة. في الصيف يتحوّل الكورنيش إلى صخب لا يطاق، وخلف الأكمات والشجيرات القصيرة النابتة في شاطئ الرمل يختبئ عشاق وهم يغرقون في عناق أبدي، فضلا عن الرجال والنساء شبه العراة وهم يسيرون دونما اكتراث على الشاطئ. أما في الشتاء فقد يهبط الغيم أحياناً فلا يكاد الرائي يميز الأفق وراء البحر، فالغيم يعانق أفق البحر في مشهد بديع، تصحبه غالباً رياح باردة لا يخففها الشاي بالزنجبيل الذي يرشفه الغرباء على الساحل الرملي. كانت الموجة في البحر لا تتوقف عن الصخب وهي في هيجان يجعلها كأنما تحكي أو تبكي بحارة هاجروا من هذا المكان باتجاه الشرق الأقصى. أما الطريق إلى “نورج” باتجاه الغرب أولا، فإنه ملىء بالمزارع والأبقار والخراف السمينة، ويكاد المسافر ينتبه لمنبه القطار وهو يمرّ كالأفعى محاذياً طريق الإسفلت. كان أكثر ما يوفر المتعة للمسافر بين مدن وقرى بريطانية هو متعة النظر والتأمل في الطبيعة، لدرجة أنني كنت أشعر بجوع البصر وجفافه المقيم، مما يجعله شرهاً وهو يحدّق ببلاهة لافتة. كانت أعين الغرباء السوداء محاطة بالبياض تغسل حدقاتها بالخضرة الوافرة، وبالغيم المتطامن حتى يمسّ شعيرات الرؤوس. حتى السمع كان يطرب بموسيقى المطر الرتيبة، ذلك المطر الذي يواصل الهطول بنعومة بالغة لعدة أيام متتالية، حتى لتشعر أن الروح ابتلت بالماء، وطفقت تخفق مثل طيور فرحة. الثلج يعانق القرميد في أواخر كانون الأول من عام 1999م كنت على موعد مذهل مع الطبيعة، إذ كان نهار أحد، حيث الحزن يخيّم على منطقة “إيتون” في مدينة “نورج”، بينما السماء بيضاء وهابطة، لدرجة أنني أرى من نافذة صالة منزلي “12 إمدرلي درايف” السماء بغيمها الأبيض تلامس أسقف القرميد الداكن في البيوت المصطفة أمامي. كانت الشجيرات الصغيرة على جوانب أبواب المنازل تتهيأ لاحتفال باذخ وبهيّ. أما الأشجار الضخمة في الحديقة القريبة، في نهاية طريق “إمدرلي درايف” فقد كانت عملاقة بما يكفي لأن تحتجب رؤوسها في ما فوق الغيم الكثيف. خلال ثوان وبينما أنصت وأحدّق بقناة “بي بي سي” في التلفزيون رأيت في الخارج كائنات تتقافز حول النافذة. كانت كائنات تشبه حشرات بيضاء وهي تدق زجاج النافذة بنعومة قبل أن تهبط على زرع الحديقة الصغيرة الخضراء. أخفضت رأسي وأنا على الأريكة حتى كدتُ ألامس أرضية الصالة لأرى السماء، فرأيت كائنات بيضاء هائلة وهي تموج في السماء، وقد جعلها القرميد الداكن أكثر وضوحاً، إذ كانت بيضاء جداً، وخلفها قرميد أحمر داكن. كانت تشبه ريش دجاج أو غرانيق بيضاء وهي تكث من الأعلى. ما الذي يحدث يا إلهي؟ قمت فزعاً واقتربت من النافذة، فرأيت خضرة الحديقة قد اختفت، والشارع الإسفلتي الأسود قد ضاع، والرصيف اختلط بالشارع التائه، كل شيء قد تحوّل إلى بياض عميم!! “إنه الثلج يا أبي!!” قال لي طفلي، وهززتُ رأسي مثل طفل، نعم إنه الثلج يا ولدي!! فتحت الباب ذا الزجاج الأصفر المضبّب، وهالني الثلج الذي يملأ الشوارع، ويغطي الأرصفة، ويكسو الحدائق، ويتعلق بالأشجار العالية مثل أجراس بيضاء، بدأت فجأة أركض في الشارع مثل مجنون: الثلج.. الثلج!! كنت آخذ بكفي وأقذف الأنحاء بكرات ثلج هشة، بينما بدأ أطفالي يلحقون بي مهووسين بالثلج، وقت أن بدأت زوجتي تصرخ بهم خشية الإصابة بنوبات برد مزمنة، كنت أحشو قبضتي من ركام ثلج على زجاج سيارتي المركونة بجوار البيت، وأقذف بها السماء مرّة، وصغاري الأشقياء مرة أخرى. كانت لحظات إكتشاف لا تنسى أبداً. لم يكن مرور سيارتين من أمام باب بيتي شيئاً مؤثراً لي، ولا للسائقين الإنجليز المارّين، إذ لم يزل الإنسان يصاب بالفرحة الغامرة أيّاً كان هذا الإنسان، حتى الأطفال الإنجليز يشعرون بفرحة إستثنائية حين يباغتهم الثلج خلال موسم المطر الدؤوب. كانت فرحتهم بالثلج تشبه فرحتنا بالمطر في بلادنا، لكن فرحتنا بالمطر تعدّ حدثاً فريداً. كنت وأنا أرى الثلج للمرة الأولى أشبه الطفل الذي يرى ساحل البحر للمرة الأولى، إذ يقترب من الماء متوجساً ومستريباً، وما أن تندفع نحوه الموجة المغامرة حتى ينكص مذعوراً للوراء. كنت أشبه الإنسان البدائي الذي يكتشف الطبيعة بنفسه للمرة الأولى. كانت رحلتي إلى بريطانيا، تعني رحلة رجل من صحراء جافة، تستجدي مطر السماء في الشتاء، وتهبُ ناسَها بعض شجيرات صحراوية يمكن أن تظللهم من وهج الصيف. كانت رحلة رجل لم تعتد عيناه على شيء زاهٍ وملوّن، على شجر هائل الضخامة، وتلال خضراء متماوجة لم يرها سوى في حلم أو شاشة مرئية، وطيور لا تكفّ عن النشيد، وزهر يغسل الشوارع في بعض الفصول، وثلج أبيض يهبط مثل طيور بيضاء تبحث عن شجر قاتم. كانت رحلة مؤثرة على مستوى البصر والبصيرة، فيها متعة النظر ودهشة الإكتشاف ومعرفة المجهول. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ورقة ألقيت في ندوة (الغرب بعيون عربية) التي نظمتها مجلة العربي بالكويت خلال الفترة27-29 ديسمبر2003م. ويكتب اسم المدينة بالإنجليزية (Norwich). والورقة جزء من كتاب “النخيل والقرميد- مشاهدات من البصرة إلى نورج” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت.
0 تعليق