ترجمة الرواية السعودية: بين ذهنيتي: التشكيك والجهل!
ربما للصدفة المحضة، يتزامن إلقاء هذه الورقة اليوم، الثامن عشر من ديسمير 2008 مع يوم صدور الطبعة الإنجليزية الثانية لروايتي “فخاخ الرائحة” عن دار “بنغوين” بنيويورك، وذلك حسب التاريخ الذي أطلقته معظم مواقع بيع الكتب على الإنترنت، وفي مقدمتها موقع أمازون المعروف بجميع لغاته. لا أعرف ما العلاقة، بين مشاركتي في هذا الملتقى، تحديداً في هذا اليوم، وبين صدور الرواية،
إلا أنني أحيل أحياناً إلى مصادفات ميلان كونديرا المجنونة، التي يؤمن بأنها هي ناموس الحياة بأكملها. لقد تحدثت في كثير من الملتقيات الأدبية عن علاقة تجربتي الروائية بالمدينة والتاريخ والأسطورة والهوية وما شابه، وأجدني هنا أتحدث عما يحدث من ردود أفعال عربية ومحلية تجاه ترجمة الرواية السعودية إلى لغات أجنبية مختلفة، ولعل أكثر ما يثير ويلفت الانتباه هو ردود الفعل تجاه الترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية. تنوعت المواقف وردود الفعل بين الفهم والوعي وبين التشكيك لدى الكتاب والمبدعين والنقاد العرب، ما بين محتفي بالتجرية في السعودية ومؤازر لها “جمال الغيطاني نموذجاً- في كلمته الافتتاحية بجريدة أخبار الأدب” ونموذج المشكك بأهمية التجربة والإحالة إلى أهداف الغرب ونواياه تجاه ترجمة ما تبدعه مجتمعات محافظة كالمجتمع السعودي “فخري صالح- جريدة القدس العربي”. يقول الناقد الأردني فخري صالح “أن دار نشر كبيرة يسعى كبار الكتاب في العالم للنشر فيها، قد نشرت هذا العام عملين روائيين لكاتبين سعوديين من الجيل الشاب، وهما رجاء الصانع ويوسف المحيميد”. ثم يضيف: “وهذا يدل على أن الغرب يريد أن يعرفنا لكي يفسر بطريقته أسباب الاحتكاك العنيف بين الغرب والشرق…. والمشكلة من وجهة نظري تكمن في إسقاط البعد الإبداعي الخلاق الذي يضيف بشكل حقيقي إلي الأدب في العالم، وذلك لغايات أنثروبولوجية وسوسيولوجية، فيتم تفضيل أعمال أقل قيمة من تلك التي تمثل الأدب العربي تمثيلاً حقيقياً، وتضيف إلي الأعمال الكلاسيكية التي أنتجتها البشرية”. في نظري أن هذا الرأي يحمل نظرة أساسية -فيما لو تجاوزنا النظرة الاستعلائية من النقاد العرب تجاه ما ينتج من أعمال إبداعية في دول الخليج العربي- وهي إضمار وهم نظرية المؤامرة، ذات الطابع السياسي أساساً، لتلقي بظلالها على الأدب أيضاً، وهو في ذلك لا يختلف عن آراء إسلاموية متطرفة ترى في الغرب وثقافته شرَّاً خالصاً، وأن ما يأتي من هناك إنما هو إثم ومؤامرة له أغراض غير بريئة، بل حتى أن ذلك يتفق أيضاً مع الرؤى الرسمية التي تتخذها كثير من الأنظمة السياسية العربية في سبيل كبح أي صوت مناهض لها. قد لا أنكر تماماً أن ثمَّة رغبة وفضول لدى الآخر لمعرفة وفهم ما يجري في أي بلد، بعيداً عن الرواية الرسمية، ووسائل الإعلام والقنوات الرسمية، أو رؤى ورحلات المستشرقين العابرين، ولا يوجد أهم من الرواية التي تملك القدرة على الكشف بجرأة وجماليات أدبية عالية. لكن تبقى المسألة الأكثر قلقاً، هل على الكاتب العربي، كي يفوِّت على أجهزة الإعلام والنشر الغربية فرصة التشفي أو التأكيد بأن ما يتحدث عنه الغرب من انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته في بلدان العالم الثالث، إنما هو حقيقة مؤكدة، وهاهو يتأكد الآن عبر أهله وكتَّابه ومبدعيه. هل على الكاتب كي يفوِّت على الإعلام والنشر الغربيين هذه الفرصة، أن يخون وعيه ورؤيته، وضميره أيضاً، ويتجاهل ما يحدث في بلاده من انتهاكات لحقوق الإنسان بحجة ألاَّ يعرف الآخر في أيٍّ من بلدان العالم ما يحدث داخل بلاده، فتستغلها آلة الإعلام الغربي ضد هذا البلد أو ذاك. مع تقديري لكل هذه الإجتهادات، وتفشي وهم نظرية المؤامرة بشكل كبير خارج النطاق السياسي، وسهولة أن يقتص المثقفون الراديكاليون بجميع أطيافهم، من أي مثقف ومبدع يكتب بصدق وتميز واستقلال، ولعل ما واجهه الروائي أورهان باموك، من اتهامات التخوين والإدانة المتواصلة من قبل الحكومة التركية من جهة، والمثقفين القوميين الأتراك من جهة أخرى، نتيجة تصريحه ومطالبته فضائياً باعتذار الحكومة التركية عن مذبحة الآرمن مطلع القرن، لعل في ذلك أكبر دليل على ما يواجهه المثقف المستقل من إدانة وتشكيك، طال حتى جائزة نوبل التي حصل عليها باموك، ومن قبله نجيب محفوظ، وتجاهل القيمة الفنية لأيّ منهما. ما أريد قوله أن كثيرا من المبدعين الأحرار يكتبون بشكل متميز من جميع الثقافات والأعراق، متجاوزين آلة التشكيك الإعلامي في بلدانهم: التركي أورهان باموك، والصومالي نورالدين فرح، والياباني هاروكي موراكامي، الليبي هشام مطر، وغيرهم.
فئات ذهنية الجهل: الفئة الأولى: تمثلها مقالة القاص جارالله الحميد “جريدة الحياة”، التي استنتج فيها بعد مقدمة طويلة ذكر فيها تعاطف المؤسسات الرسمية وانحيازها مع كتاب دون آخرين، وهم المقهورون، في وصف الحميد، ليصل إلى نتيجة غريبة عبر تساؤله: ما جدوى ترجمة رواية يوسف المحيميد إلى الفرنسية؟ ما أثار بداخلي الحزن بأن يصل وعي كاتب نحترمه بقيمة جارالله إلى هذه النظرة، وهي نظرة زمن الثمانينيات، التي تمثلت بأن كثير من المبدعين يصدرون أعمالهم الشعرية والقصصية عن طريق الأندية الأدبية وفروع جمعية الثقافة والفنون، ونادي القصة السعودي، فيحصلون على حقوق هي أشبه بالهبات والتبرعات الخيرية. الفئة الثانية: وهي التي ترى -حسب الذهنية العربية- أن النشر في دور نشر عالمية، يخضع لعلاقات ثقافية ومجاملات، حيث يرى البعض أن الكاتب الذي يملك أن ينشئ علاقات مع الغرب، من مترجمين ودور نشر، إنما يستطيع إقناعهم بنشر أعماله، مع أن هذا العالم المخيف في صناعة النشر، يعتمد على أسطول من المقررين، من وكلاء أدبيين ومترجمين ومحررين ومسئولي تسويق وتصميم ومحامين وعقود، هو أمر بالغ التعقيد، يفوق الذهن العربي الذي يقيس النتائج بمعيار الضيافة والكرم، فهذه الدور الضخمة تراهن على الربح المادي أولاً وأخيراً، وتقيس الإيرادات المالية المتوقعة من كتاب ما، قياساً بالمصروفات المتوقعة عليه، والإيرادات –بالمناسبة- لا تحسب من بيع النسخ التي تطبعها الدار المالكة للحقوق، بل من بيع عقود جديدة لطبعات جديدة، سواء لدور نشر من ذات اللغة أو للغات أخرى، وكذلك من بيع الحقوق لشركات مختصة في مجال الصوتيات أو المرئيات. الفئة الثالثة: وهي التي اعتادت أن تصرف ببذخ على طباعة مؤلفاتها في دور النشر العربية، لذا تتوقع من باب أولى أن يحدث ذلك مع النشر الأجنبي، فتلقي بإلحاح أسئلة تجلب الضحك والحزن معاً، أسئلة من قبيل، كم يأخذ المترجم من أجل ترجمة رواية ما؟ كم تطلب دار نشر أجنبية كي تطبع عملاً ما؟ هؤلاء البسطاء لم يقرؤوا تجارب كتّاب من العالم، وكيف تفرغوا للكتابة من إيرادات كتبهم، بل أحياناً من إيرادات كتابهم الأول فقط. لذلك من الصعب أن تشرح لهم أن هناك عقود يحصل بموجبها الكاتب، وعند توقيعه مباشرة، على مبالغ مالية تفوق ما تدفعه دور النشر العربية للكاتب ذاته على مدى عشرين عاماً. بل أن على كثير من الكتّاب في العالم أن يعانوا مع كتبهم الأولى، ويطرقوا أكثر من ناشر، حتى يعثروا مصادفةً، على ناشر يقبل بعملهم، ليس لضعف فيه، وإنما لاختلاف معايير وأهداف النشر، من ناشر إلى آخر، فرواية مهمة مثل “الخيميائي” لباولو كويليو، طافت على أكثر من ثلاثة ناشرين برازيليين، حتى تبرع ناشر مغمور، وزفَّ إلى العالم عملاً تهافتت عليه دور النشر العالمية، وفي تجربتي الشخصية أيضاً مع “فخاخ الرائحة” تنقلت بين ثلاثة ناشرين، هم “بلومزبري” في لندن، و “آنكر بوك” في أمريكا، و”بورتوبيللو بوكس” في لندن أيضاً، حتى رحبت فيها الجامعة الأمريكية في القاهرة، ثم دار “بنغوين” في نيويورك، ثم جاءت عروض لنشر أعمالي الأخرى: القارورة، ونزهة الدلفين، ليأتي بعد ذلك مقترح أهمية وجود وكيل أدبي في نيويورك. ما أردت قوله أن النشر والوصول إلى برعم نجاح ما، يحتاج إلى العمل والصبر، فحتى روايتي الأولى “لغط موتى” المكتوبة عام 1996م لم تجد ناشرها العربي إلا في عام 2002م، أي بعد ست سنوات من الإنتظار.
مقارنات ليست في صالح أحد: بين الناشر العربي والناشر الأجنبي سنوات ضوئية من الوعي والفهم بأساسيات صناعة النشر، ففي الوقت الذي تصدر فيه رواية عربية ما، وتحتاج إلى أيام وربما شهور كي يتوفر بيعها على موقع النيل والفرات، وهو أكثر مواقع بيع الكتب العربية شهرة، كانت روايتي “فخاخ الرائحة” متوفرة للبيع على مواقع أمازون العديدة، وغيرها من مواقع بيع الكتب الأجنبية، قبل تاريخ النشر بخمسة أشهر، أي منذ منتصف عام 2007م، بل أنها موزعة على الصحف الأجنبية المهتمة قبل النشر بثلاثة أسابيع على الأقل، في حين يقاتل الكاتب العربي للحصول على نسخ قليلة من ناشره يقوم هو بنفسه بإرسالها إلى الصحف، وقد يضطر أحياناً إلى شراء نسخ إضافية عند الحاجة. من هنا، يحدث هذا الانفصال بين المؤلف والناشر العربي، وينعدم الهدف المشترك لهما، وهو نجاح الكتاب، الذي يفترض أن يكون نجاحاً واحداً، الرابح فيه المؤلف والناشر معاً، ومن هنا أيضاً، يتمسك المؤلف العربي بنصه، ويشعر بقدسيته نتيجة الشك المتأصل فيه، من أن الناشر قد يتدخل في النص رقابياً، لا أن يقترح ويشارك في تحرير الكتاب، كما يحدث في النشر الأجنبي، الذي يؤمن أن النشر صناعة، يشترك فيها أسطول كبير من المختصين، كل في مجاله، حتى يظهر الكتاب بالشكل الذي يبهرنا دوماً بدقته وسعيه إلى الكمال. لا أنظر شخصياً إلى نصي الروائي نظرة الكمال والقدسية، لذلك وافقت على مقترح تغيير عنوان روايتي من “فخاخ الرائحة” الذي لا يعني شيئاً بالنسبة إلى ثقافة وذائقة القارئ بالإنجليزية، إلى عنوان آخر، وكذلك في النسخة الفرنسية، بل حتى أنني وافقت على مقترح ناشري العربي، على تغيير عنوان مجموعتي القصصية الأخيرة، إلى “أخي يفتّش عن رامبو”، لأن الأمر ببساطة شديدة، أن الكاتب يظل عقود من السنوات يسعى إلى كتابة مكتملة، لكنه ينتج نصاً ناقصاً هنا، ومختلاً هناك، وفي نهاية عمره الكتابي يكون كما لو أنجز كتاباً واحداً ظل ينحت فيه كل هذا العمر. ورقة ألقيت ضمن نشاط ملتقى الوعد الثقافي في مسقط 18 ديسمبر 2007م
0 تعليق