جدة – محمد باوزير، عبدالرزاق الزهراني تصوير: محسن سالم «إن الأدب السعودي أصبح اليوم في مقدمة الآداب العربية التي يطمح القارئ العربي من الخليج إلى المحيط إلى الاطلاع عليه ليجد فيه ضروباً من القيم الجمالية الراقية». بهذه الكلمات استهل وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة كلمة في الحفل الذي أقامته وزارة الثقافة والإعلام بمقر نادي جدة
الأدبي بمناسبة فوز الروائية رجاء عالم بجائزة البوكر لهذا العام عن روايتها (طوق حمام) وحصول الروائي يوسف المحيميد على جائزة أبوالقاسم الشابي عن روايته (الحمام لا يطير في بريدة) وذلك مساء أمس الأول وبحضور كوكبة من الأدباء والمثقفين ومحبي عالم الرواية، الاحتفالية جاءت بمشاركة نقدية من قبل الناقد الدكتور صالح زياد والناقدة الدكتورة فاطمة الياس والتي أدارها الناقد الدكتور عالي القرشي وقدم الحفل الشاعر الأستاذ محمد عابس. ومضى د. خوجة قائلاً: نحن الليلة في عرس ثقافي سعودي نحتفي فيه برسالة الثقافة والأدب ونقدر المبدعين المتميزين من أدبائنا ونرى قيمة الكلمة حين تصبح أدباً راقياً ليتجاوز الحدود ويرنو إليها القراء ويدرسه النقاد والباحثون ويصبح جزءاً من التراث الثقافي، وتلك رسالة الأدب وتلك سمته وميزته ولذلك نحن نقرأ الأدب لنجد المتعة والفائدة ونعيش في كلمات اللغة وعوالم مختلفة ونستمد من الآداب الممتازة دروساً لا تحققها سواها وأنا أعرف ان الأدب يمنحنا شيئاً مختلفاً انه يتضمن قيمة تختلف عن قيمة التاريخ والفلسفة ويظل الأديب والكاتب يبحث عن المعنى المستحيل، ذلك المعنى الذي نمسك به حيناً قصيدة وحيناً قصة ولكنه يظل أبداً معنى مستحيلاً. ويواصل الوزير الخوجة حديثه: هذه الكلمات أوحت بها هذه المناسبة السعيدة مناسبة فوز أديبين سعوديين بجائزتين دوليتين في الرواية هي جائزة البوكر التي نالتها الروائية المبدعة رجاء عالم وجائزة أبو القاسم الشابي التي نالها الروائي المبدع يوسف المحيميد، وفي هاتين الجائزتين تقدير واختبار للأدب السعودي الذي أصبح اليوم في مقدمة الآداب العربية. انني سعيد جداً بهذا الاستحقاق الأدبي الكبير سعيد لأن أدب بلادي أصبح يقصد لذاته وأن عقوداً طويلة في العمل الثقافي آتت اليوم أكلها ولنا أن نراقب حركة المعارض العربية الدولية للكتاب لنرى اقبال القراء العرب على الكتاب السعودي وبالأخص الرواية لتكون محل عناية وتقدير في المراكز الثقافية والجامعات والمؤتمرات الأدبية وهذا مكسب كبير للجهد الذي بذله أدباؤنا من أجل إرساء هذا الفن الأدبي العظيم في بلادنا. ويوضح وزير الثقافة والإعلام قائلاً: إن رجاء عالم ارتبط اسمها منذ بداياتها الأولى بالجوائز الدولية منذ فازت في وقت مبكر بجائزة (ابن الطفيل) باسبانيا وكانت عالم ولا تزال تعبر عن اتجاه أدبي فريد في القصة والرواية في الأدب العربي المعاصر، صحيح ان رجاء عالم تتعب قراءها بأعمالها الصعبة وتضنيهم ولكن لنعترف أننا أمام نمط متميز في الرواية، رأى فيه الدارسون طبقات من المعنى التي تحمل طبقات من المعرفة الأدبية المدهشة وتكشف لنا عن رواية مثقفة ثقافة عميقة يختلط فيها التاريخ والأدب والفلسفة والأسطورة في لغة فريدة رأينا جوانب منها في «طريق الحرير» و«ستر» و«خاتم» و«مسرى يا رقيب» و«سيدي وحدانة» وأخيراً رواية البوكر «طوق حمام» وفيها تبنت رجاء عالم صنعة جديدة في فن الرواية يختلف اختلافاً حاداً عن شكل الرواية العالمية، انني لست ناقداً ولكني قارئ ممتاز للرواية وأرى في روايات رجاء عالم إعادة استثمار للمرويات العربية القديمة وكأنها هي ذات يد ماهرة صناع تبني لنا كولوجاً منسوجاً من نصوص عربية قديمة أو حكايات استقتها من بيئتها المكية الخالصة، وها هي مبدعتنا رجاء عالم تتوج مسيرتها حتى الآن بهذه الجائزة الكبيرة (جائزة البوكر) لتحقق للرواية السعودية مكسباً جديداً ولتؤكد للجميع ما تكتنزه المرويات العربية من ذخيرة روائية فريدة. في حين رأى الوزير خوجة فوز الروائي يوسف ابراهيم المحيميد بجائزة أبي القاسم الشابي انه استطاع بهذا الفوز أن يلفت الانتباه إليه منذ أن أصدر روايته الأولى «لغط موتي» واستمر عطاؤه الرائع في أعماله التالية «فخاخ الرائحة» و«نزهة الدلفين» و«القارورة» وأخيراً روايته البديعة «الحمام لا يطير في بريدة» التي نال بها باستحقاق جائزة (أبي القاسم الشابي) التونسية في الرواية من بين ١١٤ رواية عربية، وكانت روايات يوسف المحيميد ذات سمت روائي فمتميز حين قدم صوراً بديعة ومدهشة لاشكال الناس وأبدع في تصوير «الحرافيش» أو ما أطلق عليه في احدى رواياته «الحنشل». إن قارئ روايات المحيميد يثيره ذلك المدى الفسيح الذي تحفل به، ان عينه الروائية قارئة ممتازة لأبنية المجتمع لكنه يحيل ذلك إلى نص روائي فريد ذي جملة روائية بديعة استقاها من موهبته الفذة في القصة القصيرة الشعرية بل من تجربته في قصيدة النثر، بل انني أذكر ان مثقفاً أوروبياً حدثني قبل فترة عن روايته «القارورة» حين قرأها في ترجمة انجليزية صدرت عن الجامعة الأمريكية أن يوسف المحيميد استطاع أن يغريه بأن يقرأ أكثر وأكثر عن المملكة وثقافتها، وهذا هو الأدب يشدنا إلى محطات جديدة في حياتنا، اننا ونحن نقرأ روايات يوسف المحيميد نستكشف معنى الجمال حتى لو كان عالمه الروائي كاشفاً وقاسياً وهذا هو الأدب الحقيقي. واختتم الوزير حديثه قائلاً: ويا لها من مصادفة طريفة ان تطيرا إلى جائزتين كبيرتين على جناحي حمامة وهكذا هو «الحمام» يظل أبداً رمزاً لكل ما هو جميل جمال هاتين الروايتين. من جهة ثانية قدم الناقد الدكتور صاح زياد ورقة نقدية عن أعمال يوسف المحيميد الروائية حيث ذكر أنه يبدو بوضوح في روايات المحيميد تقدم المضمون على الشكل وذلك في مقابل توازن الشكل والمضمون أو تقدم الشكل. ويبين زياد قائلاً: ان هذا المضمون من حيث هو مقتضى وعي وحالة يقين يمتلك في ضوء وعي المرحلة حضوراً ضاغطاً وبطابع توجيهي وهو ما يؤول ابداعياً إلى بروز تيمات ذات دلالة اجتماعية وواقعية أكثر من غيرها، وبالقدر نفسه تظهر وجهة نقدية حادة وتحمل أحياناً تعليقات مباشرة في دلالة على النفي لأي شك أو ارتياب وتصعيد لهيمنة صوتية من وجهة محددة ومن هذه الوجهة يأخذ أبطال المحيميد خاصية نسقية تؤلفها المظلومية تجاه المجتمع في استبداده بهم وتختص بالشباب والنساء على وجه التحديد، أي بما هو معيار للتحول والتجدد ومجهر للكشف عن الثقافة وانفتاحها وقوتها وسبر حركتها باتجاه المستقبل، وتمثل الشخصيات النسائية لدى المحيميد دور الضحية للثقافة الذكورية فهي منتهكة ومخدوعة وسجينة ومتهمة ومهانة ويمارس ضدها التمييز لكونها امرأة، كما أنها تأتي لتلعب دوراً بطولياً يأخذ شكل نساء راشدات يشارفن الأربعين بصفات القوة والجرأة والاقتحام. كما يلفت النظر لدى المحيميد انتهاء أبطاله إلى الهزيمة والانسحاب كما هو في رواية (الحمام لا يطير في بريدة). بعد ذلك ألقى الروائي الأستاذ يوسف المحيميد الفائز بجائزة أبي القاسم الشابي كلمة بهذه المناسبة كان الشكر فيها القاسم المشترك لكل من سانده في مشواره مع الكتابة والإبداع حيث قال: كأننا نقف أمامكم بحمامنا بطوقه وأجنحته القصيرة لنقول لكم شكراً أن منحتمونا هذا الحب كأنها أشارت لي نحو ناشرها المركز الثقافي العربي فتبعتها مأخوذاً بهما وكأنني أشرت لها صوب حمامي الذي لا يطير فأبرقت بحمامها ذي الطوق الذي أغوت بجماله «أبوظبي» ففازت وأغويت بحمامي الذي لا يطير أهل تونس فأطلقوه مع يمامهم الحر في شارع الحبيب بورقيبة، رجاء وأنا نسير على ضفتي نهر السرد العظيم ثالثنا الأبهى عبده خال كل واحد يتنبه إلى سره ويخفيه عن الآخرين، كأننا نشترك في كشف جمال القبح حتى يغدو القبيح جميلاً كأننا نوشوش النهر إذ يسترخي كرجل عجوز كي بقى، نهمس له عن مكة العتيقة ووجل جدة وغموض الرياض عن المدن والتاريخ كأنما نسير معاً ونلتفت كل فينة خلفاً لنرى اذا أعشب الربيع حول آثار خطواتنا. ويواصل المحيميد الشكر في معرض حديثه فيجدد شكره لوزير الثقافة التونسي رئيس جائزة أبي القاسم الشابي للرواية ولجنة تحكيمها ويشكره لزوجته التي شاركته مراجعة مخطوطة (ظهيرة لا مشاه لها) قبل ربع قرن وشكره لثلة من المثقفين كصالح الأشقر وجارالله الحميد وسعد الدوسري ومحمد جبر الحربي وسعد الحميدين الذي منحه صفحة من جريدة «الرياض» ليمارس فيها قلمه وعدسته تحت اسم (قضاء البصر) ويواصل المحيميد شكره أيضاً إلى دار رياض الريس وعبدالله الناصر ولمترجمي رواياته بل حتى كل ناقد أو دارس عثر فيما كتبه المحيميد ما يستحق الاشادة أو الانتقاص وأنهى المحيميد شكره للحضور الكريم. الناقد الدكتورة فاطمة الياس تناولت في ورقتها دراسة أعمال الكاتبة الروائية رجاء عالم حيث أكدت ان رجاء عالم يمتد تاريخها الإبداعي الحافل إلى ما هو أبعد وأعمق من هذه القراءة الاحتفالية على شرف فوزها وحضورها لكن هذه هي رجاء لا تكتب لتفوز ولا تفوز لتحتفي وتزدهي بل لتشحذ طاقتها وتواصل ركضها، نسكب من عمق نظرتها للكون وفلسفتها وعشقها للتراث واستلهامه الماضي في معين الفن بمختلف صنوفه وقوالبه الكتابية والبصرية. إن في كل مرحلة من مراحل خلق رجاء عالم الإبداعي وكل عمل من أعمالها تأبى رجاء إلا أن تطوف بنا جبال مكة وسهولها لندلف معها عبر بوابة المقدس بوابات الحرم وحصواته القديمة وصحن الطواف ومراتع الحجيج وعبر دهاليز الغرائبية والعجائبية والأسطورة واللامعقول وأزقة المدعي والغزة وسوق الصاغة وسوق الصغير، فها هو الشيخ محمد بيك الشخصية المحورية في معظم روايات رجاء عالم شيخ سقاية مكة فتصفه رجاء في رواية طريق الحرير: «يعبر الرواشين المقنعة لوحات الحجر الرمادي بين الهوادج وحمير السقاية والراجلين..». وتمضي الياس موضحة: في مزج رجاء عالم بين التاريخ والتخييل والمعقول واللامعقول في قوالب حكائية ونماذج سردية تطفح بالطقوس والخرافات وتعبق بالنفس الصوفي والتسبيحات وذكريات الحج والعادات المكية والتحولات، تلج بنا رجاء عالم إلى قلب المجتمع المكي بقماشاته المزركشة بأزياء البشر من كل أصقاع الأرض ونسيجه المتجانس من خلطة الأعراق الذائبة في عروق وحدته وتعدده وتشابهه واختلافه في آن واحد، وفي خضم هذا التمازج يصبح الحنين إلى مساقط الرؤوس حقيقة مجسدة في حرص كل جنس على الإبقاء على جذوره الذاتية وثيقة وإن كانت مواربة، كما توضح الياس حزن وهلع الروائية رجاء عالم من فقدان السياج المكاني لمكة والوشيجة الروحية هو الباعث السردي لرواية «طوق حمام» التي تدور دراما أحداثها المثيرة بجوار الحرم المكي وتحديداً في زقاق أبوالروس تواصل فيه رجاء هذا المزج الميتافيزيقي بين الواقعي والأسطوري. إن رجاء عالم حافظت على رقيها الكتابي وخطها الروائي المجلل بالغموض والنفس الصوفي والفلسفي منذ روايتها الأولى «أربعة/صفر» ومروراً بأعمالها الروائية «طريق الحرير» و«حبي» و«خاتم» و«ستر» و«موقد الطير» و«طوق حمام» ومازالت تمتح من قنطرة التراث المكي لترسم لنا تلك الصور الغرائبية والشخصيات المؤسطرة وتغوص في سراديب الذاكرة الكونية لمنابت الأشياء وعوالم الناس وحيواتهم لتكشف ما وراء الحجب وتجس أساطير اختلاط أطياف المكان بأشباح من رحلوا وظلوا يحومون مسربين تمائم تحكي قصصاً منسية وأسراراً مخفية تختلط بعبق قدسية مكة وتفرد ديموغرافيتها. هذا وفي نهاية هذه الاحتفالية قدم وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة درعاً تذكارياً للروائية رجاء عالم وقد تسلمته عنها الدكتورة فاطمة الياس فيما سلم درعاً تذكارياً للروائي يوسف المحيميد متمنياً للفائزين مزيداً من الانجاز المتميز في عالم الابداع الروائي.
0 تعليق