ثمة هدايا قليلة في الطفولة، أظن أي طفولة لها ذاكرة لا تنسى، هكذا كانت هدية أمي في الثامنة، عبارة عن بندقية ساكتون25 بحجم قامتي، كنت أستيقظ فجراً متتبعاً العصافير المبتهجة بالضوء، أحشو بندقيتي برصاصة أدفعها بلساني، حيث فمي مستودعاً صغيراً لبضع رصاصات، ثم أهمز الزناد فتهب الرصاصة في صمت الفجر إلى صدر العصفور المطمئن!.
حتى كان اليوم الذي أصيب فيه عصفور، وصار يتقافز في الشارع الترابي هارباً من وحشتي، مذّاك قررت أن أستبدل ماسورة البندقية بعدسة التليفوتو، وأنصفت الطيور بعدها، تفننت بأشكال الطيور الملونة، وتفرَّعت اللعبة إلى أنواع العدسات الأخرى، ستنادرد، وايد إنجل، كلوز أب، حتى وقعت في عشق التفاصيل الصغيرة، التفاصيل الغائبة عن عين الرائي العادي.
في لحظة من عام 1996م لمعت فكرة زاوية “فضاء البصر” في جريدة الرياض، وانطلقت كل خميس يصحبها نص شعري، وتحتل ثلثي صفحة، والثلث الباقي كان لزميلي الناقد المصري كمال ممدوح حمدي، والتي يتناول فيه الفن التشكيلي، هذه الزاوية التي استمرت أكثر من سنتين، انقطعت بسفري إلى بريطانيا، حيث دخلت هناك في مدينة نورج شمال شرق لندن، غرفة التحميض والطباعة “دارك روم” وأدمنت الضوء الأحمر الخافت، والظلمة أيضاً، وطارت في حواسي روائح السوائل الكيميائية، فاكتشفت عالم الأسود والأبيض، ووجدت فيه رهاناً فادحاً على الضوء والظل، وعدت من هناك بعدد وافر من اللوحات، فضلاً عن التحاقي بدورة أخيرة لامست فيه لعبة الألوان.
في عام 2002 عدت بزاويتي “فضاء البصر” بشكل آخر، يتماس مع الاجتماعي بطريقة سردية، وبصورة واحدة بشكل شبه يومي، حتى أصبحت الزاوية، والصورة بالتالي، قريبة من القراء إلى حد بعيد، لكنني شعرت أنها استنفذت أغراضها، ولم يعد لديَّ جديد في هذا الفضاء الصحفي.
أشعر بدهشة حين يقول لي أحد ما، أن التصوير الفوتوغرافي أصبح مسألة سهلة وعابرة، مع وجود التقنيات الجديدة، كالكاميرات الرقمية، التي لا تحتاج سوى أن تضع الكاميرا صوب الهدف، وتهمز الزر، هكذا ببساطة، رغم أن الكاميرات الرقمية حتى الآن تفتقد جماليات الكاميرات الفلمية، فضلا عن حساسية العين تجاه المشهد، ودور الوعي في ابتكار المشهد، وزاوية الالتقاط، كل هذه عناصر تكشف المصور المحترف من دون ذلك.
أشعر أن فن الفوتوغراف يتفرَّع إلى جانبين، أحدهما يرتبط بالجانب الفني التقني، وهو كيفية استخدام طاقات الكاميرا والعدسات وسائر الإكسسوارات المصاحبة، وهذا الأمر يتم تعلّمه ودراسته بواسطة الدورات أو ماشابه، أما الجانب الآخر، وهو الأكثر أهمية في التمييز بين تجربة فنان وآخر، وهو جانب الوعي والرؤية، وهذه تتشكل عبر القراءة والثقافة العامة، ولا تقتصر المسألة على اطلاع الفنان الفوتوغرافي على تجارب الفنانيين العرب والعالميين، بل الاطلاع على الفكر والفلسفة والشعر والرواية والتشكيل والسينما والمسرح وغيرها. وهذا ما يفتقده كثير من الفنانيين الفوتوغرافيين السعوديين، وهو ما أتمنى الانتباه إليه، لأن ذلك سيعيد رؤية هؤلاء تجاه اللوحة أو المشهد البصري.
———————
جريدة الإقتصادية- مارس 2006م
0 تعليق