لا أعرف لِمَ ينتابني شعور بأن النص الروائي لا يكتمل إلا بتسلل أسطورة ما، كقط وحشي يدلف البيت الآمن، فمنذ رواية “فخاخ الرائحة” وحتى “نزهة الدلفين” مروراً برواية “القارورة” وأنا أرى كيف تتخلق الأساطير في نصي الروائي مثل شجر يعرِّش بولهٍ وجنون، هل هي طفولتي التي ضجَّت بالأساطير، تلكم التي تقتات من ليل منزلنا في حي “عليشة” بالرياض، وكأنما الجبل الهائل أمام المنزل كان وحشاً أسطورياً ينتظر خروجي، أو لكأنه يخفي وراءه العفريت ذا الرؤوس السبعة، ومغاراته تخبئ أسرار الجثث الآدمية. هل نبتت الأساطير في ذاكرتي منذ الطفولة، ونحن نتحلّق حول أختي الكبرى، في غرفتنا المعتمة، المزدانة جدرانها –ذات الطلاء السماوي- بأعواد العنبر، التي ترمي رمادها من الأعلى مثل ندف غيم يتأهب، بينما أختي تقرأ علينا أسطورة الزير سالم، وعنترة العبسي، والمقداد الكندي، وألف ليلة وليلة، هل تسللت الأسطورة إلى دمي، فتملكتني، حتى إذا ما وضعت أولى أوراق روايتي أمامي تقافزت الأساطير من رأسي إلى الورق، وازدحمت مثل قطرات ماء مجنونة؟ إنها كل ذلك، جاءت كل الأساطير التي حفلت بها رواياتي من الهواء الذي أتنفسه يومياً، بدءاً من قصص الجن الذين يطوفون بخفّةٍ في المنزل، يغلقون الأبواب، ويطفئون ضوء المصابيح، بل قد يصل تطفل أحدهم إلى أن يغير قناة التلفزيون أو حتى يطفئه! وحتى الكائنات التي تطير في الهواء، من حصان مسحور يطير، إلى فتاة جميلة تلبس ثوب الريش وتحلِّق في السماء كطير! طفولتي لم تحظ بمستلزمات الطفل الحديث، فلم تحضر شاشة التلفزيون السحرية إلى البيت إلا حين بلغت الثالثة عشرة، وقد كان ذلك أيضاً سرَّاً بيننا نحن الصغار وبين أمي، إذ كان أبي رجلاً نجدياً تقليدياً متشدِّداً، يرى في دخول التلفزيون أو الشيطان –كما كان يسميه- إلى أي بيت، إنما هو دخول شرّ ومنكر وبلاء وكفر بما أنزل الله! من هنا عشت عشرة أعوام على السهرات الليلية، كما لو كنَّا في ليل قاهري قديم، أو في ساحة جامع الفنا بمراكش، حيث يتوزع فيها الحكواتيون في الأنحاء، ويتحلَّق حولهم الناس فاغري أفواههم من الدهشة، هكذا كانت الحكايات والأساطير تتخلق في عقلي الصغير، تتحول الكلمات إلى شخوص، والشخوص إلى وقائع، والوقائع تنتظم حتى تصبح واقعاً جميلاً أمامي. كنت آخر من ينام في غرفتنا المشتركة، إذ كنا أخواتي الأربع وأنا وأمي ننام في غرفة واحدة، بينما أبي يحول غرفتنا المجنونة إلى ما يشبه القبر، حين تكون ليلة أمي، إذ لا يملك أحد منا أن يتنفس فضلاً عن أن يحكي، فأفتقد ليل الحكايات الرائع، وأتمنى في سرّي أن يبقى أبي كل ليلة مع زوجته الأخرى، حتى تركض الأساطير في فضاء الغرفة المخنوق، فيتسع! كم كانت اللحظة ثقيلة عند النوم، فقد كان الأرق يأكل أطرافي بجنون، لأبقى مستلقياً أحدِّق بالسقف الأبيض بشدَّة حتى يتململ ويبدأ لعبته الليلية، إذ يهبط نحوي تدريجياً، فأضطر إلى أن أرفع يدي كل فينة، كمن يهشُّ ذباباً مؤذياً، لكنني لا ألمس شيئاً، ثم انقلب إلى جانبي الأيمن، فأنظر في الجدار ذي اللون السماوي، أحدِّق فيه بشدَّة حتى يقترب فأغمض وقد دخلت في ملكوت السموات الهائلة، أرى ما لم يره أحد، أصاحب الكائنات التي تخفَّفت من ثقلها وطارت، أطير معها ونلهو بين النجوم، كم كان مشهد الأرض في الأسفل صغيراً ومذهلاً! كم كانت بيوتنا تشبه حبَّات اللوز المتناثرة، كم كانت عليشة صغيرة جداً بحجم علبة كبريت، وكم كان الجسر الحديدي في نهاية شارع العصَّارات يشبه خيط حذائي الأسود! هكذا انتقلت هذه العوالم، وشغف البحث عن الخفَّة، ودروب الحرية السماوية، كي تجد طريقاً سالكة إلى النص الإبداعي، فأصبحت الأرض الثقيلة – حسب نيتشه- التي تغرس فيها النعامة رأسها، رغم أنها أسرع من الحصان، أصبحت تلكم الأرض ميدان عالمي وشخوصي، فحتى لو آخيت النعامة التي وصفها نيتشه بأنها أسرع من الحصان، رغم أنها تدفن رأسها في الأرض الثقيلة، فإنني أقول عزيزي نيتشه: لم تكن تغرس رأسها خوفاً ولا بحثاً عن الثقل! بل كانت تفتش في التفاصيل الغائبة أو المغيبة أو المدفونة، تفتش عن الأسرار المفقودة! هكذا شعرت لحظة كتابة “فخاخ الرائحة” أنني أمام بحث دقيق عن وثائق مدفونة، فتتبعت وثائق الرقّ في السودان والسعودية، والتقطت أساطير الحجاز، تلكم الأساطير التي تبرر إحداها توفر الثروة غير المشروعة من المتاجرة بالبشر، بالعثور على كنز من كنوز بني هلال والأمم البائدة، لحظة بناء أحد البيوت، تلكم الأساطير التي تبرر خطيئة الأنثى آنذاك، وحبلها غير المشروع، بأنها لم تضاجع أحداً، بل حبلت من القمر، حين نشرت ملابسها الداخلية في الهواء الطلق لحظة اكتمال القمر، فتشكلت في رحمها طفلة تشبه القمر! أحياناً أشعر أن حضور الأسطورة قد لا يكون علنياً، لكن أحداث الشخوص وصراعهم قد يحيل إلى أسطورة ما، لا أعرف كيف التقط كثير من النقاد والدارسين أسطورة جلجامش وصراعه مع إنكيدو داخل رواية “فخاخ الرائحة” إذ أشار آخرهم وهو ناقد أمريكي إلى تمثل هاتين الشخصيتين في شخصيتي طراد ونهار، إذ يتصارعان للظفر بساحة السطو الواسعة في صحراء مشتركة بينهما، حتى يخورا مثل ثورين منهكين، فيتصالحان ويصبحان صديقين وقاطعي طريق متلازمين، حتى تنتهي الحياة بأحدهما مع إحدى قوافل الحج، حين اكتشف الحراس محاولتهما الفاشلة للسرقة. هنا أكاد أجزم أن استلهام أسطورة جلجامش جاءت في روايتي من منطقة اللاوعي، ثمة تماس حميم بين جزء من أسطورة معروفة، وبين حياة بدويين في الصحراء، فقراءة الأسطورة وتلبس الكاتب بها، وإعادة إنتاجها بشكل آخر هو من شروط توالد النص الإبداعي، إذا آمنا أن التراث الإنساني يشتغل منذ آلاف السنين على نص إبداعي واحد، يمارس التنويع عليه، من خلال تعدد النصوص التي تسعى لأن تقدم تفسيراً للحياة والموت والكون. الأساطير التي افتتحتُ بها رواية “القارورة” أجدني أنحاز فيها إلى السائد عند قراءة الأساطير، أو الواجب طرحه، وهو عدم السؤال: هل هي حقيقية؟ وإنما السؤال الأكثر وعياً، وهو: ما المقصود بها؟ ففي ظني أن الروائي أو القاص حينما يستلهم أسطورة ما، فهو يشير من خلالها إلى هدف أو مغزى ما، هكذا جاءت حكايات الحفيدات الثلاث، مطلع راوية “القارورة” وهن يسردن أساطير شعبية معروفة في شبه الجزيرة العربية، بغية المنافسة فيما بينهن لكسب جائزة الجدَّة، وهي قارورة تحتضن الحكايات الميتة لكي تبقى وتحيا. ففي الحكايات الثلاث كان ثمَّة حضور للمقص، وحضوره في محور الحكاية الشعبية من جهة، وإيحاؤه في صلب الرواية وبطلتها البنت الثلاثينية. وهو ما أشار إليه أحد النقاد السعوديين، إذ يشير فيما يشير إليه، إلى محاولة قص الحياة السابقة، ومحاولة العيش من جديد، سواء في حكاية الأب الذي ترك بناته الصغيرات الثلاث في الصحراء، وقص طرف شماغه من تحت صغيرته التى لا تنام إلا بجواره، كي يهرب دون أن تستيقظ، ليبدأ حياته الجديدة مع زوجته الشريرة، أو في شخصية الرواية المحورية، البنت الثلاثينة التي تسعى إلى قص صك طلاقها وحرقه بعد أن تعرَّضت إلى خديعة من حبيبها وزوجها المزوَّر. كثيراً ماأفكر هل كان عليَّ أن أقتصر على توظيف ما أريد من الأساطير المحلية فحسب، أي ذات الخصوصية التي ترتبط بالمكان، أم أن الأسطورة في العالم هي تراث إنساني متاح للجميع، وتوظيفها يعتمد بالدرجة الأولى على النص الجديد المكتوب، بمعنى أن حضور الأسطورة يجب أن يكون منساباً بنعومة، مثل عقد يزين جيد سيدة جميلة، هكذا حضرت أسطورة الأمبراطور الفرنسي شارلمان في رواية “نزهة الدلفين” كأنما حطَّت فجأة عليّ لحظة أن بدأتُ أرصد لحظات جنون خالد اللحياني، وهو يقع مكبَّاً على وجهه في عشق حبيبته آمنة، كأنما أوقعته بذكاء في شرك السحر، سحر عينيها وروحها الفائضة مرحاً وخبثاً. كما أن الرجل الذي تم مسخه طيراً، وهو يصيح أو يغرَّد بحثاً عن حياة أخرى، هي أيضاً محاولة التأرجح بين الواقع والأسطورة. كثيراً ما تنتابني لحظات السؤال الأكثر طموحاً: كيف يمكن أن تتحول الرواية بأحداثها وشخوصها ومكانها إلى أسطورة جديدة، بمعنى: ما مدى القدرة على أن أكتب رواية تخلق أسطورتها من عمقها دونما جلب أساطير الذاكرة الشعبية المتاحة للجميع، ودونما توظيف تلك في نص جديد يتحدث عن واقع يومي جديد، بمعنى خلق أسطورة لا تتشابه مع أسطورة سانتياغو الراعي الأسباني في رواية “الخيميائي” لباولو كويليو، تلك الرواية المتقاطعة مع أحدى ليالي ألف ليلة وليلة، وإنما خلق أسطورة تتفق مع أسطورة ذاك الراعي، المتمثلة بأن الكون بأسره يتضامن مع ما ترغب حين تؤمن برغبتك تلك وتقاتل لأجلها، إذ يتقاطع حلمي معه في مسألة الطموح، بحيث سأقاتل مع حروف الأبجدية كلها إذ أسوقها في مخيلتي، كخرافٍ كذعورة، لنصنع أسطورتنا الجديدة. هل تجربتي السابقة في الكتابة للطفل، فضلاً عن قراءات الطفولة، خلقت في داخلي ذلك الطموح؟ فبدأت منذ العاشرة اللعب على مفاتيح آلة كاتبة يدوية، اشترتها لي أمي حين أنهيت المرحلة الإبتدائية، فكان أول نصوصي المكتوبة قصة أسطورية برداء حكاية شعبية، لم أعد أتذكر منها سوى الشخصية المحورية، وهي شخصية “ميسرة” الأخرس، الذي يحمل صغار الطيور في جيوبه، ويراعي أعشاشها، ذلك الذي عرف كيف يجعل الطيور تتبعه حين يمشي في الصحراء، ويحادثها وتحادثه، فلا يفهم لغتها سواه، ولا تفهم لغته سواها، وحين تفتقده القبيلة تشيع أنه تحوَّل إلى طير ضعيف فالتهمته الطيور الجارحة! هو الشغف أذن، بدهاليز الحكايات التي تستطيع أن توقف وجيب القلب لثوانٍ، تلكم التي تبقى ترن في الذاكرة عقوداً من السنوات، من أين تنشأ أساساً؟ وكيف تتحول مع الزمن؟ وكيف تتبدل من مكان إلى آخر؟ كأنما هي صخور تتعرَّض إلى الريح والزمن، فتتشكل بمرور الوقت إلى نماذج متنوعة ومثيرة. حين كبرت، وتعلَّق قلبي بالكتابة، وأصبحت الحكايات والأساطير تجعلني أحياناً أفسّر الواقع بطريقتي، صرت أنهض فجأة عن لوحة المفاتيح وأخبط الجدار بقبضتي منتظراً أن تقفز من صلابته الفكرة أو الهبة الإهية، تقفز خفيفة ورائعة تخف أمام عيني كالغيمة، فأكاد أبكي صخباً وفرحاً، هي اللحظة إذن، التي أرى أنها امتداد حقيقي ومنطقي لهروبي إلى سطح البيت، مخبئاً أسطورة الزير سالم، أبي ليلى المهلهل وقد عثرت عليها محفوظة بين ملابس أمي، حيث تخبئها كي لا أقرأ فيها وأبكي، هل كنت متعاطفاً آنذاك مع حكاية الغدر والثأر من القتلة؟ أم كنت منحازاً إلى القصيدة التي تطالب بعدم الصلح، تلك القصيدة التي أحببتها بشغف وقت طفولتي، وأحببتها أيضاً في تنويعها الحداثي، وبعنوانها الجديد “لا تصالح” للشاعر أمل دنقل، فهل نحن غير متسامحين؟ أم ثمَّة فرق بين التسامح والتخاذل؟ هكذا لازمتني الأسطورة بكافة أشكالها ومنابتها المتنوعة، منذ ولادتي وطفولتي، وحتى الآن فيما أكتبه من نصوص روائية. __________________ * شهادة حول “الرواية والأسطورة” يلقيها الروائي المحيميد في مهرجان عبدالسلام العجيلي للإبداع الروائي خلال 11-14 نوفمبر 2007م
0 تعليق