صدوق نورالدين
بدءاً يمكن القول إن الرواية الثالثة للروائي يوسف المحيميد، قد جاءت لاستكمال مشروعه الروائي منذ فتحه البكر “لغط الموتى” (2002)، دون أن يفهم من السوق كون: “القارورة” (2004) بمثابة جزء ثالث.
على أن خاصة الاستكمال، تكمن في فرادة الاستمرارية والتميز، حيث نجد الرواية تفرض على متلقيها قاعدة التناول النقدي التي تعود في الأساس لثراء المعنى وغناه..
فالمادة لا تعد مغرقة في الماضي وإنما قيمتها تتحدد في راهنيتها، ومدى آثار ذلك على المسار والتوجه السياسي والفكري.. بيد أن ما يعضد طبيعة الاختيار، الجرأة والموقف في/ وعلى التناول النقدي لما اعتيد اعتباره اللامساس، وبخاصة في القضايا الاجتماعية والسياسية.
إن المتلقي الحصيف لرواية “القارورة”، يحس وبمجرد الانتهاء من تلقيها، بأنه لو قيض للرواية الاستمرار لما كانت انتهت، إذا ما نظر لثراء وغزارة النص..ف “القارورة” في اعتباري النص المفتوح على احتضان متن واسع من الحكايات الموازية التي تفعل بالحضور لتغذية وتعضيد الحكاية الأساس.. على أنه وبالإضافة إلى اعتبارها الديوان الموسع للحكايات، مما يؤطرها في جانب ضمن المدونة التراثية، من دون أن يفقدها بعد الكتابة الحداثية الرصينة والمنطقية، وبخاصة على مستوى التقديم والتأخير والترتيب، فإنها تحوي أجناسا لا تصرح بها كالسيرة، ليس نص القارورة سوى السيرة الذاتية لاسم علم متخيل هو “منيرة الساهي”.. واليوميات والمذكرات، حيث إن مجريات الحياة اليومية تكتب وتدوّن ويحافظ عليها في “القارورة”.. هذه التي تحيل بالرمز والإشارة على الحكاية في شموليتها: “..سامحيني يا أمي إن قرأت يوما مذكراتي هذه”.
“ذات مساء – تكتب يومياتها..”
ومثلما تحوي أجناساً فإنها تحتضن كتابات من خارج الصيغة الأدبية، كالمذكرة الإدارية والتقرير القضائي.
إن سيرة “منيرة الساهي هي سيرة مجتمع ثابت تقليدي محافظ، تتفاعل فيه وقائع وأحداث اجتماعية تحاكم باسم الأخلاقي، من دون تحقيق الانعتاق نحو مجتمع الحرية والمسؤولية.
قراءة “القارورة” بمثابة وعي بمستوى إنتاجها الخيالي والجمالي..بمعنى آخر فالرواية تفصح من داخلها عن صيغة إنتاجها.. ومن ثم يتآخى الوعي الإبداعي بالنقدي الذي يضمر سلطة الكاتب باعتباره المؤلف (وأنا هنا لا أفرق بين الذاتين: ذات الكاتب وذات المؤلف).. والواقع أن هذه الدرجة من الوعي، وعي الكتابة من داخل الكتابة، لا تتحقق وتتم إلا في الحالات التي يتم فيها اختيار الفاعل كمدير للأحداث ودافع بها، إلى أثره/ تأثيره على السواء..ف” منيرة الساهي”:
1 – صحافية تدون زاويتها (فخها) تحت عنوان “وردة في آنية”
2 – تخوض في بحث اجتماعي يندرج في علم الاجتماع
3 – وهي قارئة نهمة للآداب العالمية
هذه المعطيات تجعلنا نقف على شخصية مثقفة تحذق صنعة الكتابة والتأليف، وتسهم بالنقد والتعليق (وهو الوعي الناقد خلفه المؤلف)، وفق ما تجسد في الملفوظ الإبداعي: “القارورة” حيث يلعب النقد وظيفة تلخيص الرواية واختصارها.
أسئلة الكتابة الروائية
إن ما يقود إليه السابق، إثارة أسئلة الكتابة الروائية في “القارورة”.. وهي أسئلة وليدة المظهر التجريبي الذي خضع له/ إليه النص.. فقد يبدو بعد التجريب بسيطاً وعادياً، لكنه في الجوهر اكثر تعقيدا، إذا ما تم إمعان النظر في الصيغة بهدف تفكيكها.. من هذا المنطلق أعتبر قراءة المتن الروائي ل”يوسف المحيميد”، عملية تفترض قارئاً واعياً بالفعل الروائي، بغية الإحاطة بآليات الكتابة وإنتاج المعنى الروائي.
عتبة الرواية
يتشكل بناء النص الروائي “القارورة” من فصول تحمل أرقاما وليس عناوين، كما الشأن في “فخاخ الرائحة” (2003).. من ناحية ثانية، تستهل “القارورة” بعتبة عبارة عن قول فلسفي ل”نيتشه”، لا يتم ضبط إحالته المرجعية.. واللافت أن “فخاخ الرائحة” تفتح بمقدمة هي جزء من الرواية.
إن عتبة القول الفلسفي، تختزل الرواية في ثنائية: حب/ حرب.. هذه تعمل على توجيه القارئ وتحديد قصديته.. خاصة وأن المعنى المنتج في الرواية يتأطر في سياق هذه الثنائية من دون أن ينفصل عنها.
من ثم تعيد الرواية إنتاج ذات المعنى في نوع من التكرار على امتداد النص..
“أليس الحب هو حرب بصورة أو بأخرى؟”.
“..ذات حرب وحب” فالعتبة وفي هذه الحالة من حيث وظيفتها: التمهيد للنص أو التأطير له أو توجيه القارئ.
خاصات روائية
يتشكل النص الروائي “القارورة” من خاصات هي المتكأ الأساسي لتناسل المعنى الروائي.. من هذه الخاصات: العرض، الاختزال، التوازي والإعداد.. على أننا لا نذهب إلى القول إن هذه الخاصات تنفرد بها “القارورة” وحسب، وإنما نسوق “تمظهراتها” كما تجلت في هذه الرواية.
1 – العرض: يرتبط العرض بالشخصيات الفاعلة في النص.. وبالذات الرئيسية منها.. ولقد تم بناؤها وفق الصورة التي يوجد عليها المجتمع كبنية تقليدية محافظة: الأب (حمد الساهي)، الجدة، الأخ (محمد الساهي)، إلى الأخت (منيرة الساهي) محور النص في علاقتها ب(حسن العاصي).
مع الإشارة إلى بقية الأخوة والأخوات، حسب القيمة الاعتبارية الممنوحة لهم.. واللافت تغييب الأم إلا من إشارات عابرة، إلى استحضار شخصية (صالح الساهي) بهدف التوثيق الزمني لبداية الرواية، والإبانة عن كون حسن العاصي يشتغل إلى جانب الرائد “صالح”، حيث يقع الاحتيال عليه، كما على أخته “منيرة”. وتتميز شخصية “محمد الساهي” بالسمة الأصولية، وفق ما يتمثل في رفضها للمستجدات التحديثية والحداثية، ومقاومتها لكل ما يعد خارجاً عن المنظومة الدينية.
إن الغاية من العرض:
1/ الكشف عن الفاعلين في الرواية بالتدرج.
2/ تبيان دائرة تحركهم وتفاعلهم.
3/ رصد العلاقات القائمة بينهم.
2 – الاختزال: إن مكونات العرض السابق، يتم توسيعها باعتماد الاستحضار والتذكر وسرد حكايات موازية.. على أن اللجوء إلى الاختزال الروائي جعل نص “القارورة” يفعل/ يتفاعل انطلاقاً من مكان مغلق هو الغرفة التي تقيم فيها “منيرة الساهي”، والتي تعد مستقر تدوين هذه السيرة/ اليوميات/ المذكرات، وصيانتها في “قارورة” إلى حين الإفصاح عنها.. ذلك أن ما يتلقى، يقرأ، يخلف أثره، ويخلق هذا الأثر، التقليب في أوراق “القارورة”.. إنها الحكاية، وحكاية الحكاية كما سلف.. وإذا كان الاختزال ينحصر في الغرفة، فإن وجهة النظر تركز من حيث الرؤية على ضميرين: المتكلم والغائب، حيث ثقل الضوء يقع على “منيرة الساهي”.. إنها مبتدأ الحكي ومنتهاه، بحكم القصدية المتوخاة من رمزيتها: من الأنثوية إلى الدلالة الاجتماعية. على أن المستوى الثالث من هذه الاختزالية، يجلوه الزمن المنحصر في سنة كاملة، حيث إن كتابة الحرب تتوازى بكتابة قصة الحب.. وأعتقد بأن النص لو انحصر في التدوين للحرب والتوثيق لها، لما اكتسب أفق تلقيه الواسع..
“منيرة الساهي”: الدلالة والرمز
أن انهيار القيم الاجتماعية، وهيمنة ظاهرة السوق الاستهلاكي، قاد إلى تحويل هذه المجتمعات إلى تحديثية عوض أن تكون حداثية، واستفحلت الظاهرة بالرهان على الصورة ليس كثقافة ومعرفة، وإنما كتبديد للزمن، الشيء الذي نتج عنه تراجع القراءة والثقافة في أغلب الدول العربية. هذه السياقات متباينة ومتقاطعة، دوافع لإنتاج قول روائي تخييلي تتحكم فيه ثقافة الروائي، ومدى متابعته للمستجدات الحاصلة.. وأعتقد بأن اختيار الروائي لفاعل نسائي أنثوي في “القارورة”، ينتمي لمجتمع تقليدي محافظ تتعضد وتتقوى فيه الظاهرة الروائية، بعد هيمنة جنس الشعر، ما جعل النص محفلا ثريا مثريا للحقل الدلالي الرمزي.
تتمثل الدلالة الفكرية ل”منيرة الساهي”، في كونها كاتبة مثقفة أكاديمية وصحافية.. وبالتالي فهي التجسيد الأعلى لوعي النخبة الذي لا يمكنه المسايرة بسهولة، والانقياد كذلك.. إلا أن هذه الدلالة في الرواية تعيش زمن انهيارها وسقوطها، وكأن الروائي يلمح إلى ضرورة إعادة النظر والتفكير في الوعي النخبوي السائد.وأما الدلالة الاجتماعية فتجلوها المهمة التي تقوم بها “منيرة الساهي”، بصفتها مرشدة اجتماعية وهي النافذة التي تتيح لها تمتين قوة البحث، والخوض في ممارسة علم الاجتماع، برصد العادات والتقاليد المحافظة.
سوسيولوجيا الرواية
إن استقراء السياقات التي أفضت إلى الاشتغال على مادة الرواية: “القارورة”، يقتضي التلميح إلى حصيلة متداخلة هي دوافع وعوامل استلزمت تدوينها والتأريخ لها، ليس التاريخ الصرف كوقائع وأحداث، وإنما الكتابة الأدبية في جنسها الروائي المتعدد المفتوح.
من الناحية السياسية، فإن حقبة التسعينات شهدت تراجعاً سياسياً عربياً تمثل وفق الكامن في الرواية في احتلال العراق للكويت، وما ترتب من اختلالات في العلاقات العربية، كما الغربية، والغربية الأمريكية (من الآراء التي ترى بأن الغرب واحد)، علماً بأن هذه الاختلالات نواة لما سيصبح عليه الوضع العربي لاحقا من هشاشة وعطالة فظيعة للسياسي كقيم مدنية ديمقراطية نبيلة.
على أن ما تولد عن هذه العطالة هو اختراق المد الأصولي، وما خلفه من تداعيات دولية وعربية، حيث اعتبر الدين ملاذاً وخلاصاً، والحضارة العربية واجهة جديدة للصراع الحضاري، بعد انهيار المدين الشيوعي والاشتراكي، وهو ما سيستدعي أغنية الديمقراطية المستوردة المفروضة، والتي سيترتب عليها لاحقاً نتائج بعضها سلبي في دول، وإيجابي – إلى حد ما – في أخرى.
ناقد من المغرب
جريدة الخليج الإماراتية- ملحق الخليج الثقافي- الثلاثاء 6 فبراير2006م
0 تعليق