الروائي يستحق سمعته وهذا شأن لا لبس فيه

مايو 29, 2012 | الحمام لا يطير في بريدة | 0 تعليقات

مازن معروف:
يكون من غير المنصف اعتبار رواية يوسف المحيميد الأخيرة، “الحمام لا يطير في بريدة” (المركز الثقافي العربي)، مجرد مرآة على مجتمع يعيش خصوصيته بعيدا من الإعلام، ويشهد تحولات في النظام المجتمعي والسياسي تنسحب في النهاية على شخصية الإنسان السعودي، لتغسل طموحاته بالسواد. وقد يكون من غير المنصف أيضا اعتبار الرواية عملا دراميا يختصر شخصيات انتقاها الكاتب لتكون مركّبة أو مبسطة تتعرض لاحقا للتغيّر بفعل التحول في بنية العائلة الصغيرة الواحدة، الأكثر تماسكا على المستوى السوسيولوجي.
تحمل الرواية قيمة أدبية بنيوية تعكس تمرس المحيميد الطويل في باع الكتابة كمشروع. تبعث الرواية شعوراً بالقلق: هل ما تقرأه هو أدب سعودي أم أدب يتجاوز الحالة الاجتماعية والخاصة للشخصيات ليلامس المناخ الموحد بين إنسان وآخر؟ الفيض الأدبي الذي تشهده منطقة الخليج، السعودية تحديدا وخصوصا ما بات يُعرف بالرواية السعودية، لا يشكل عاملا إيجابيا أمام القارئ. إذ أن الكتابة تفترض كسر المحرّمات وليس الاندماج فيها، ولكنها تشترط عدم كسر هذه المحرمات بشكل دعائي.
كقارئ، لم أتوقع أن يسحبني العمل للإنغماس في تفاصيله إلى هذا الحد. فهناك العديد من الروايات باتت مرتبطة بمساحة جغرافية شرق أوسطية تحديدا، يجد الكاتب فيها الكثير من المتبدلات الاجتماعية والاشتراطات التي تفرض تغييرا على خط حياة الفرد. أحداث يومية يمكن أن تكتب لقارئ غير عربي في الأساس، وتشكل مفارقات مذهلة أو حالات إكزوتيكية له. غير أن المحيميد ينجح منذ الصفحات الأولى للعمل، في وضعك داخل الخطوط النفسية للشخصيات، فتتوقع ماذا يحدث لاحقا، فتنجح أحيانا وتفشل أحيانا أخرى، وهذا ما يشكل عمود اللعبة الأساسي بينك وبين هذا الروائي الواثق.
التقنيات تتنقل على أكثر من مستوى. هناك أولا الخطوط السردية المختلفة التي ينسجها الروائي معتمدا على الذاكرة الفردية لبطل العمل فهد السفيلاوي، والتي يشكل مخزونها خط السرد الرئيسي. تتجزأ بين فعلين منفصلين، يركّبان الموقف العاطفي للبطل، من دون أن يعلنا موقف الكاتب من الحوادث التي تصيب المملكة. هناك أولا لحظة ركوب القطار حيث فهد مغادر من محطة ليفربول في لندن إلى “غريت يارموث”. هي لحظة غير ثابتة، تغيب وتحضر، وتتواطأ مع ماض مؤلم وغير نقي. تتماسك بنيويا مع الزمن السابق، وهو ما لا يتعمد الكاتب إظهاره للقارئ، بل يغذيه بالفلاش باك لتحفيز هذا القارئ على اكتشافه تدريجاً. هذه لحظة، ستصبح قطعة زمنية موقتة من أربع ساعات يحاول فيها فهد الاتصال بصديق عمره، سعيد بن مشبب. أما المتمم الزمني الآخر للحظة ركوب القطار، فمجموعة من لحظات تتكثف شيئا فشيئا، لتحتشد واقفة خلف اللحظة، دافعةً فهد إلى استعادة تلك البيئة البشرية التي تضغط تطلعات الفرد، وتشتت أحلامه باسم الدين والحماية الملكية. لهذا فإن حقبة غير معلومة من تاريخ مملكة آل سعود، ستتمدد أمامنا براحة تامة، وتُختزل بذكاء من خلال الشخصيات المنتقاة في العمل. غزارة في الوعي الفردي لبعض الأشخاص (والد فهد وفهد نفسه)، ومجتمع مصغر ينضح بالتحولات النفسية والعائلية والاجتماعية والدينية، تصيب كلاًّ من فهد وسعيد، من خلال غياب أبويهما.
البناء الروائي أو تركيب الحدث ينطلق من ثنائية فهد – سعيد. يشكل كل منهما محورا منفصلا، لكن غير مستقل. فالتقاط هاتين الشخصيتين وضمهما في وحدة روائية متينة، يتم بفضل افتراض طفولة متقاسمة، وتشابه مسيرة أبويهما بانخراطهما في تيار اسلامي “إصلاحي”، يتورط في حوادث الحرم عام 1979. وفيما تثبت إدانة والد سعيد بحمله السلاح ويتم إعدامه، يحاكم سليمان السفيلاوي الذي لم يقتصر دوره إلا على توزيع المنشورات، بالسجن لمدة أربع سنوات. تشكل هذه الحادثة أحد مقومات وعي فهد المبكر بمجتمعه، كما تحمل أباه على الانقلاب، بحيادية تامة، ضد إيديولوجيا تغيير النظام، فيلجأ إلى تحرير عائلته، حافرا في فهد الصغير ملامح رؤيوية، تمكنه من تبصر محيطه واستقلالية موقفه الخاص. شخصية تفاجئنا، تقترح أمامنا نمطا مختلفا من الشباب السعودي، لا يمكن اختصاره بعد الآن بدشداشة وعباءة بيضاء وهوس إشباع النزوات.
لكن محوري فهد – سعيد، لا يعلنان نفسيهما بالشكل المباشر. إذ أن كل محور يتطور لاحقا على حدة، ويتشكل مستقلا بشخصيته عن الآخر، على رغم صداقتهما المتينة. التفاصيل تطوق كلاً منهما، باختلاف خطوط نشأتهما ودرجة الحدة الدرامية وتوقيتها. ففهد السفيلاوي إبن القصيم، وسعيد بن مشبب، إبن الجنوب السعودي، تتشابه البيئة الحياتية لكل منهما في العاصمة الرياض، لكن الذروة الدرامية في حياة كل منهما، لا يمكن أن يتزامن توقيتها مع الأخرى، على الرغم من أنهما شريكا لحظات طفولة ومراهقة. هذا الاختلاف في البناء البسيكولوجي لكل من الشخصيتين – المحورين، يظل مرهونا باختلاف تطور الحوادث المحيطة بكل منهما، كدائرة سوسيولوجية متبدلة تلعب السياسة العامة للدولة دورا كبيرا فيها. النظام الملكي المصحوب بالأدوات العسكرية، وسياسة الحماية التي تفرضها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للمحافظة على التركة الإسلامية وصونها، تترك الإنسان السعودي أسيرا في جدران من الوهم باسم الدين والآخرة والترهيب من المنكر والعقاب الدنيوي عليه.
تؤدي الذكريات المتقاسمة دورين أساسيين: فهي أولا تكسر من صلابة مناخ القلق الذي يتورط فيه فهد، الذي حينما يحضر، يأخذنا الأسلوب السردي الى داخله. وثانيا، هي إشارات غير مجانية، لا تفسر شخصيتين مختلفتين، بل تقدم موقفا عاما لكل منهما حيال الحياة. بل تسمح بأن ينفصلا ويتلاقيا مرات عدة، الامر الذي يتيح معالجة ظواهر المجتمع السعودي بزاوية أكبر. لكن المطبات الاجتماعية التي تمر بها عائلة فهد تحديدا، وخصوصا كون جديه لأمه أردنيين يطردان لاحقا من المملكة، تشكل حبكات صغيرة وكأنها ارتدادات تسبق زلزالا كبيرا. هذه الارتدادات أو الدراميات الصغيرة، كموت الأب سليمان، وطرد الجدين الأردنيين من المملكة، وتجارب فهد الغرامية المتعثرة، ومحاولة إبن عمه التحرش به، إضافة إلى دخول عمه على خط الزواج من أمه، والتحول الصاعق الذي يصيب شخصية الأم والأخت لولو، والتداعي السريع لسوسيولوجيا المنزل الخاصة جدا…، هذه كلها تشكل تمهيدا لحادثين أساسيين دراميين أكثر تعملقا: هجر فهد لأمه وأخته هربا من سطوة العم بعد زواجه من أمه، وموت الأم القاسي والعبثي على يد شيخ مصري يطرد الجن. هذه السلسلة الدرامية، تشكل بناء هندسيا هرميا في العمل، تتكون قاعدته من نسيج الفلاش باك الحساس، الذي يجعل المحيميد من تفكيك شيفراته الزمنية عملية سهلة وممتنعة.
يذكر أن الروائي يوسف المحيميد من مواليد الرياض عام 1964. هو الابن الوحيد والأصغر بين سبع بنات. دللته أمه بطريقتها الخاصة عبر حضه على القراءة، التي كان يستمتع بها. وهذا للحق، إحدى المفارقات اللذيذة في نشأة المحيميد. له عدد من القصص والروايات شكلت “فخاخ الرائحة” المترجمة الى الانكليزية، الذروة فيها، وحققت نسبة مبيع عالية، وأتاحت للكاتب موضع قدم وثيق في أوروبا. المحيميد معروف بمواقفه الجريئة والتي تعنى كلها بنفض الغبار عن سرية المجتمع السعودي من دون الإنخراط في الفضائحية التي شكلت ظاهرة مؤسفة للعديد من كتاب الخليج طالبي الشهرة. عن الكتابة في المملكة، يقول: “ينقصنا أمر مهم جدا هو التحرر من الرقابة السابقة على نشر الرواية”، وهو يؤمن بأن “الرياض ستتحول ربما إلى مدينة تشبه بيروت أو تتفوق عليها”، في حال حصول مثل هذا التحول.
على أثر مشاركة المحيميد في مؤتمر أدبي إلى جانب سلمان رشدي، شن دعاة كثر هجوما عليه، منها مثلاً على شكل رسالة موجهة اليه: “يوسف أعرض عن هذا”.
“الحمام لا يطير في بريدة” نفدت الطبعة الأولى منها بعد صدورها بأقل من شهرين، مما دفع الناشر (المركز الثقافي العربي) إلى إصدار طبعة ثانية. العامل الذي يجدر ذكره حول الرواية، يتعلق بصدقية الكاتب وجديته في البحث عن وثائق، تناولت الوضع الاجتماعي قبيل موقعة السلبة (حادثة احتلال الحرم) التي شكلت تهديدا لسلطة الملك عبد العزيز على يد جماعة الأخوان المسلمين، بالإضافة إلى استخدام وثائق صحافية حديثة، على شكل أبحاث مقتضبة تناولت ما يدور داخل المجتمع السعودي من أوهام وخرافات، تحتل شعبية واسعة لدى العموم، دافعة بفئات هائلة من المجتمع إلى مساحات مظلمة في ظل التطور التكنولوجي الهائل.
يوسف المحيميد روائي يستحق سمعته، وهذا أمر لا لبس فيه.

* جريدة النهار اللبنانية- الأربعاء 19 آب 2009 – السنة 77 – العدد 23789

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *