جدة- حمود الشهراني:
يرصد الروائي يوسف المحيميد في روايته الجديدة «الحمام لا يطير في بريدة» الصادرة حديثاً عن المركز الثقافي العربي التحولات البنيوية للمجتمع السعودي، وآثارها في تكوين شخصية الفرد الذي يعيش اغتراباً عن محيطه بسبب أشكال التسلط المتعددة، فيصبح الفرد بعد سلب حريته مثل حمامة منتوفة الريش لا تستطيع الطيران. صورة الغلاف ريشة ملتصقة بثوب صوف لطفل صغير
إلى جانب عنوان ملغز، يرمز لصعوبة حياة الشباب وبشاعتها من وجهة نظر شاب سعودي، يعمل في مكتب للطباعة والبحوث في مدينة ليفربول، ويستقل القطار إلى غريت يارموث وخلال الرحلة يحاول الاتصال بصديقه سعيد، لتأتي بدل رنين الهاتف الجوال أغنية شعبية فتكت بقلبه وجعلته يتذكر بحنين مفرط الرياض التي يتسلل الخدر إلى جسدها، وهي تنام مثل امرأة غامضة، تصارع أعمدة الغبار، وتصب جحيمها فوق الجميع. فهد سليمان السفيلاوي بطل الرواية يعيش مثل بقية جيله من الشباب بعيداً عن المجتمع، في عزلة ويأس في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني، التي تحتوي طاقات الشباب وتستثمر ابداعاتهم اضافة إلى انعدام ممارسة الحياة الثقافية بكل مظاهرها، وبالتالي حين يغيب الحراك الثقافي والاجتماعي يستغل أصحاب الايدلوجيات القبيحة هذا الفراغ، في تجنيد الشباب لتنفيذ مخططاتهم الشيطانية كما حدث مع أبيه الذي حذر ابنه منهم قبل وفاته، ونصحه بألا يكرر الخطأ نفسه الذي كلف الاب 4 سنوات من عمره في السجن. «كان فهد نقياً ووديعاً يحب الورد والموسيقى والفنون والحياة البسيطة الواضحة كالشمس، ويحب طرفة أيضاً، لكنه الآن بدأ الخطوة الاولى في عالم غامض وغريب يحاكمه ويتأمر ضده».فهد يشعر بالهوان والخضوع لإرادة عمه المتشدد في مشهد مأسوي، عندما يطلب عمه التنازل عن التحقيق في وفاة أمه المغدورة، وقد بدا وجه العم مظلماً خوفاً من الفضيحة، بينما تهيم روح الأم ويناجيها الابن بألم: «ما أقسى اللحظة التي يتوقف فيها الدم المجنون الراكض في الجسد ثم يتوقف القلب عن الغناء».
شخصية العم أبو أيوب تستدعي توصيف اريك فروم في كتابه البديع «الخوف من الحرية» عن موقف الشخصية التسلطية نحو الحياة، بل فلسفتها الكلية المرتبطة بنزعاتها الانفعالية، فالشخصية التسلطية تحب تلك الظروف التي تحد من الحرية الانسانية، وترغب في الحصول على سيادة كاملة على الآخر، وجعله موضوعاً عاجزاً لإرادتها حتى يصل إلى مرحلة لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وهذه الهيمنة الكاملة على شخص آخر هي الماهية الخاصة للنزعة السادية. العم الذي احتل مكان الأب بعد وفاته يمثل النظام الأبوي- البطريركي الذي لا يقر بقيم المدنية وحقوق الانسان، ويحبط أي مشروع نهضوي مستقبلي. والحقيقة أن الصراع الموجود في المجتمع لم يعد مجرد صراع بين محافظين واصلاحيين، بل بين من يؤمن بالحرية وآخر يرفضها لغاية إحباط أي محاولة للتغيير أو الاصلاح. كل هذا يتضح أمام فهد قبل مغادرته إلى بريطانيا مع أصحابه في المقهى، ومنهم عمر الذي يصدم الجميع بحقيقة من اخترعوا كذبة الليبراليين لتبرير التجاوزات والانتهاكات الماثلة للعيان. في سطور الرواية إدانة قاسية لتصرفات الهيئة مع الشباب، وهي تمارس معهم القمع الذي يبدأ بالشك والتوجس وينتهي بالمطاردة والاعتقال، وهذا ما حدث مع فهد الشخصية المحورية وحبيبته طرفة عندما انتهى موعدهما الغرامي في مقهى ستاربكس إلى غرفة توقيف بحجة الخلوة، وتم اتهامه أيضاً بالسحر والشعوذة، لأنه كان يضع في معصمه مسبحة ملونة. فصول الرواية تتعاقب مثل مشاهد سينمائية بفعل عملية مونتاج ذكية، يعتمدها المؤلف للانتقال بين زمن وآخر وإتاحة الفرصة لشحصيات الرواية للتعبير عن آرائها في مواضيع دينية واجتماعية في إطار نقدي ساخر، من دون الشعور بالخجل عند الحديث عن أفكارها ورغباتها السرية أو مواقفها التي لا تستطيع الجهر بها في العلن، بينما تقتنص عين الراوي ظواهر وإشكالات من الحياة اليومية لا يستطيع أحد تفسير كل هذه الضجة المفتعلة حولها، ويعيد انتاجها في شكل مبسط بعيداً عن التعقيدات في تركيبها أو التدليس في روايتها، حتى يستطيع القارئ إدراك المفارقة الجلية واكتشاف الحقيقة التي لا يريد أحد الاعتراف بها.
يوسف المحيميد عمل بهدوء وتأمل على مدى سنتين ونصف السنة من أجل كتابة هذه الرواية، ورجع إلى كثير من الوثائق التي تناولت قضايا مختلفة ترتبط بجذور التطرف الديني، والتناسل العجيب لهذا التيار منذ ما قبل موقعة السبلة، وحتى التفجيرات الإرهابية الجديدة، مروراً بحادثة الحرم المكي والجهاد في أفغانستان.
هناك مقاطع آسرة في الرواية، منها مثلاً ذلك المقطع الذي يتحدث عن قضية الحرم المكي الشريف التي وقعت أحداثها عام 1979، ومشاهد الجولات الليلية بالسيارة للوصول إلى مكان آمن للدردشة والابتعاد عن الرقيب، تأملات الابن في ألبوم العائلة السعيدة قبل حلول الكارثة.
* جريدة الحياة- 23/2/2009
0 تعليق