يوسف المحيميد يمزج بين السرد والتفاعل النصي

مايو 29, 2012 | الحمام لا يطير في بريدة | 0 تعليقات

إبراهيم الحجري
كرس الروائي السعودي يوسف المحيميد في عمله الروائي الجديد، ذي النفس الملحمي الدرامي موضوع الحصار النفسي والفكري المضروب على الإنسان في المجتمع السعودي باسم الفهم الإيديولوجي المغلوط للدين من طرف عصبة رهيبة تستغل الإسلام كغطاء وذريعة لبلوغ أهداف سياسية، ولقمع كل سلوكيات التحرر والانعتاق والتوثب لدى الإنسان السعودي, مثقفا كان أو إنسانا

عاديا. الشيء الذي جعل الإنسان في السعودية سجين هواجس القمع والأسر المبطن الذي يكبح كل رغبة في الجهر بالرأي مهما كان سديدا. هذا الوضع كان المنطلق الذي انبثقت عنه أعمال روائية جديدة, منها ما جرجر أهله في المحاكم والسجون، ومنهم من فضل العيش بعيدا حتى تتأتى له الفرصة, حتى يفصح عما يريد دون مضايقات من عصابات الهيئة التي تردع كل شيء باسم الفسق والجنس المحرم والكفر والزندقة وما إلى ذلك من تهم تصب على الضحية بالقوة دون أن يجد من يزيح عنه هذه الأباطيل أو يدافع عن براءته مما ينسب إليه من تهم كاذبة.
لقد أفرز هذا الوضع جيلا جديدا من الروايات ذات الطروحات الثقافية النقدية التي لا تشكو وضعا فحسب، بل إنها تعالج أزمة عالقة لم تحسم فيها السياسة، بل تزيدها تعقدا وتفاقما, لكن الرواية بوصفها جنسا أدبيا يساير التحولات، ويتغلغل في العمق الإنساني ليسبر كل تفاصيل حياته وأحلامه وتطلعاته الراهنة والمستقبلية، استطاعت أن تنفذ في غور هذا الإشكال مقلبة إياه من جميع تجلياته، ومواكبة مشاعر الشخصيات وهي تراكم معاناتها تاريخيا مع عصابات رجال الهيئة الذين يقولبون الدين وفق رغباتهم ليتمكنوا من جعله كابوسا يوميا يقبر أحلام الناس وميولاتهم وتطلعاتهم لحياة أفضل يسودها التحرر والتواصل, حياة يكون كنهها الاقتناع لا القمع، الود والتراحم لا الإرهاب والترهيب، الحوار والتواصل والفهم الحقيقي للأشياء بعيدا عن التأويلات المغرضة والمسيئة للإسلام, إن الرواية تستعرض بنفس درامي قاس مأساة الشخوص النفسية والجسدية مع تبعات الفهم الهيئوي للدين، وتأويله بالفهم الإيديولوجي المهيأ سلفا.
في رواية «الحمام لا يطير في بريدة» يتذرع الروائي يوسف المحيميد من رحلة القطار لشخصيته المحورية فهد سليمان السفيلاوي، لاستعادة سيرته المأساوية، في مجتمع يتحكم فيه «حراس الفضيلة»، فبمجرد امتطائه القطار من محطة ليفربول بلندن متجها صوب مدينة «غريت يارموث»، وعلى مدى أربع ساعات، يحاول الاتصال بصديقه وتوأم روحه الشاب الجنوبي سعيد بن مشبب، وعوض الرنة المعتادة تصدح أغنية قديمة لخالد عبدالرحمن توقظ أشجانه وأحزانه ومواجعه، وعن طريقة السرد التناوبي، يستعرض الروائي حياة والديّ هاتين الشخصيتين، وهما ممن تورط بحادثة الحرم المكي عام 1979م، فالجنوبي مشبب ممن حمل السلاح ودخل الحرم، وتم إعدامه فيما بعد، بينما «سليمان السفيلاوي» كان يقود توزيع المنشورات ذات فجر رمضاني قبيل احتلال الحرم من قبل الجماعة السلفية المحتسبة، فدفع ثمن أفكاره أربع سنوات من حياته في السجن.
وقد فصلت الرواية في الحياة المزدحمة والمتحولة لشخصية فهد، منذ ولادته من أم أردنية، ومعاناته مع أخته «لولوة» بسبب ذلك، وحتى القبض عليه من قبل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتهمة خلوة غير شرعية مع معشوقته «طرفة الصميتان» قبيل سفره الاضطراري إلى بريطانيا، مرورا بمواقف مؤثرة في حياته، أحدها في بيت عمه ببريدة مطلع التسعينيات، حينما سافر هناك مع أهله هربا من ويلات حرب الخليج الثانية، ليتعرض لمحاولة تحرّش من ابن عمه الأكبر منه سنا، فتتملكه حالة رعب مزمنة من الطيور، مرورا بالموت المروع لوالده زمن المراهقة في حادث مأساوي، وتطوع عمه للزواج من أمه كي يحافظ على لمة أسرة أخيه. هذا العم هو نفسه، سيحول البيت من حالة عيش طبيعية، إلى جحيم حقيقي يرفض بشكل قاطع ومتشدد لكل أسباب الحياة والمدنية، فالرسم حرام، والموسيقى حرام، والصور حرام، واختلاط الولد مع أخته حرام، الشيء الذي جعل فهد يهرب من البيت، في لحظة نزق مرعبة، ليعيش مع صديقة سعيد في شقته.
أما الأم «سها»، الشخصية المتحولة، من بيت أردني يحب الموسيقى وصوت فيروز، إلى حياة هادئة، ثم حياة قاسية مع العم، تنتهي في حالة قتل شبه متعمد على يد شيخ مصري يطرد الجن.
أما شخصية «طرفة»، فحياة لهو مستمر، وهروب من تجربتي زواج فاشلتين، إحداهما من ممثل مغمور، والثانية من شاب غامض، يدمن التنقل بين مواقع الإنترنت المتشددة، حتى يختفي ذات ليل، ولا يعود، فتضع «طرفة» صغيرتها «سارة»، في ظل غياب والدها، كما هي حالة «سعيد بن مشبب» الذي كان في رحم أمه، وهي محبوسة في أقبية الحرم المكي مطلع القرن الهجري، حينما غرر بها زوجها، ودخلت الحرم بحجة أداء العمرة، فرأى سعيد النور دون أن يجد والده الذي تم إعدامه بعد تحرير الحرم المكي بأيام.
تعتمد هذه الرواية على وثائق تراوحت بين الوضع الاجتماعي السائد قبيل موقعة السبلة التي حدثت بين الملك عبدالعزيز وجماعة الإخوان، ووثائق من حادثة الحرم المكي، فضلا عن وثائق صحافية حديثة، تكشف ما يدور في المجتمع من أوهام وخرافات لا تزال سائدة حتى اللحظة الراهنة. وفي جميع الأحوال تشكل هذه الشخصيات أوجها متعاكسة لوضع قاتم تتحكم فيه آلة القمع الإيديولوجية. وقد مزج الروائي بين أسلوب السرد المتناوب، والتفاعل النصي بين خطابات متعددة منها القرآن والمقالة الصحافية والوثيقة التاريخية, غير أن المهم في الأداء النصي هو الرسالة التي حملها الروائي نصه هذا، والمتمثلة في رفض واقع مسلط على العقل والجسد معا. واقع يدفع بكل الوسائل مجتمعا برمته إلى الحضيض، زارعا بذور الهلع والخوف والرعب من آلة لا تعرف سوى القمع والموت والانتقام والتكفير لأتفه الأسباب وأوهى الذرائع. وقد نجح المحيميد، رغم وفرة المادة الحكائية التي اعتمدها وصعوبة الأسلوب السردي الذي اعتمده، في خلق انسجام رائع بين بناء الأحداث وتمفصل الدلالة ودينامية الأحداث السردية.
•جريدة العرب القطرية- العدد 7721 يوم الأحد 2 أغسطس 2009

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *