ياسين رفاعية
يضع يوسف المحيميد الروائي السعودي بين أيدينا المجتمع السعودي التقليدي بكل أحواله وحياته السرية ومكابدات صباياه وشبابه من محاصرة وملاحقة لأقل هفوة أو تحية عابرة ترتفع بيد أنثوية تقود سيارتها سراً إلى شاب هو الآخر يقود سيارته على المنعطف الآخر، تتخللها قصة حب يتحايل فيها العاشقان عن جماعة الهيئة التي رئيسها في حوار مع جريدة عكاظ
بأنهم يسترون على أكثر من 90% من قضايا الخلوة غير الشرعية، وعندما أُلقي القبض على فهد وطرفة في مطعم وبأوراق مزوّرة بأنها زوجته، تمنيا أن يكونا من هذه الـ90%، ولم يرد فهد أن يكذب: نعم ليست زوجتي هي صديقتي. ومن التداعي المحكم والمكتوب بحرفية كاتب متمكن، تكرج أحداث هذه الرواية بما يشبه فيلم سينما تتخلله لحظات رعب وخوف، وتحد ورفض لهذه القوانين الجائرة التي تطبقها جماعة المعروف والمنكر، فلا يكاد ينجو شاب أو فتاة من ملاحقتهما ولو على الشبهة.
“الحمام لا يطير في بريدة” هو العنوان وهي المكان، في تداعيات ومشاهد متوترة، عدا عن أطماع ولصوصية، والتستر وراء الدين من أجل مصالح خاصة.
وفهد كانوا يعيّرونه أنه من الشام لأن أمه التي ولدته أردنية من زوج سعودي، فهو أقرب إلى البياض منه إلى السمار الداكن، يعاني من وفاة والده ومن عمه الذي دخل البيت زوجاً للأم من أجل الستر والحلال ليمارس على العائلة أوامره وسلطته الجائرة ومنع فهد من الرسم لأن الرسم حرام والغناء حرام والتفرج على التلفزيون حرام، فيتمرّد فهد ويترك البيت ليعيش مستقلاً مع صديقه المقرب جداً سعيد، ممارساً كل منهما حياته بحرية.. ولكن حرية مقيدة بالتقاليد والقوانين والخوف، خصوصاً عندما يتناقلون أخبار الجامعيات معظمهن بسبب الكبت مثيليات فـ”المشهد كان مريعا حين اشتبكت إحداهن مع حبيبها (أي الفتاة الأكبر سناً) وتبادلن الكلمات القذرة والاتهامات وقد اكتشفت البنت أن “بويتها” قد عاكست فتاة صغيرة استجابت لها، لم يكن الموقف مضحكاً لطرفة وصديقتها نهى، بل كان غريباً ومؤلماً، فلم تملك إلا أن تجاهلت تغزل سميرة بها وبعينيها. وهي تحاول معها في لحظة تفردها بها تحت الدرج متوسلة بأن تجرّب معها لدقائق فقط حضن وعناق، وإن راق لها الأمر فستقوم بتقبيلها لدقائق، لكن طرفة أجابتها وهي تركض صاعدة الدرج بخوف بأنها لا تستطيع أن تفعل “أكره البنات” يتكرر هذا المشهد في الجامعات بين الطالبات حتى فاحت رائحتهن.. ولكن أين الجماعة والرقابة التي لا تصل إلى هذا الجو لأنه حريم بحريم.
موت الأب
موت الأب خربط وضع العائلة فهد وأخته وأمه والعمل الذي تحايل بأن الله أمره ستر عائلة أخيه والمحافظة على التقاليد وكل ما أمر به الله والدين.. وهو كاذب همه الاستيلاء على إرث العائلة والتحكم بمصيرها، فـ”هو الوحيد الذي يجب عليه حفظ بيت أخيه، وولديه المراهقين، لكن هذا العم الذي يستخدم المسجد للإيقاع بضحاياه بأسلوب ماكر حيث يرسل ابتسامته “الساحرة” أو هزة من رأسه على سبيل التحية لدرجة تجعل المصلي يرتاب في نفسه وقيمتها، ويفكر: هل يعرفني؟ أم أنه يظهر عليّ سيماء الوقار والهيبة ويكون في تلك اللحظة وقع في شرك خفي. إنه شيطان بثياب ملائكة، يصرخ في وجه ابن أخيه فهد: أنت محتاج إعادة تربية، الصور لا تُعظّم يا آدمي.. ما تفهم ثم ينزل الصورة ويرمي بها على الأرض: لا شوف صور في البيت بعد اليوم، الصور حرام، أنت ما تفهم.. الملائكة ما تدخل بيت فيه صور! أعوذ بالله منك. وكانت الصورة للأب المتوفي ولذكراه التي يريد فهد الاحتفاظ بها آخر ما تبقى من أبيه الراحل.. لكن خبث العم يتجلى في أفكاره التي يختبئ وراءها، فلا يريد أحداً أن يتذكر أخاه. حتى الشعراء يراهم وتراهم الهيئة والمتطرفين الذي يتوغلون في نسيج المجتمع فاسقون ضالون ويحاولون هدايتهم إلى سواء السبيل، إلا أن رجال الأمن استطاعوا إنقاذ الشاعرين وهربوهما من خلف المسرح.
“القاعدة”
وينتقد فهد الفئات المنتشرة في المجتمع ومن خلالها رجالات يقعون في قبضة “القاعدة” على أساس أنهم مجاهدون في سبيل الله يطلقون عليهم اسم “السروريين” نسبة إلى محمد سرور زين العابدين من الإخوان السوريين هرب من هناك وجاء للسعودية ونشر دعوته في بريدة، حتى كوّن طلاب شباب صاروا مدرسين ومشايخ. وهكذا فرّخ عدد من الأتباع سمّوهم الأحزاب الثانية بالسروريين، وهم بالمناسبة منشقين عن الإخوان المسلمين.
تشكّلت في حياة فهد منذ طفولته انعطافات أثرت به وخلقت في أعماقه تداعيات جعلته يسأل كثيراً، وأشد تلك الصدمات رحيل أبيه الى الأبد والثانية زواج أمه بعد عام من عمه المنافق بحجة المحافظة على ذرية أخيه ولم يعرف أن الصدمات الأشد ستأتي في مستهل شبابه، قبيل أن يطير على طائرة “البريتش ميلاند” إلى لندن ومنها إلى مدينة صغيرة تدعى: غريت يارموث، فالتداعي منذ السطر الأول إلى السطر الأخير من الرواية هو حركة النص وتدفقه كالنهر الصاخب نحو مصبّ غير معروف مكانه، ذلك أن عالم الغرب مختلف كلياً عن عالم الصحراء، وعالم التشدّد الديني كما أمر محمد عبدالوهاب في كتابه الذي قاد المملكة إلى هذا الواقع القاسي من أجل الحفاظ على الإسلام الحقيقي.. والتقيّد بشدة بالكتاب والسنّة.
يكشف الروائي الخزعبلات التي يؤمن به الناس فتشكل لدى فهد مصيبة المصائب عند مرض أمه، فيدعي العم أن الجن والعفاريت والشياطين تلبّسوها، وليس هناك من وسيلة غير ضربها والتعدي عليها وفي ظنهم أن هؤلاء الجن والشياطين سيخرجون من جسمها وتشفى، لكن من شدة الضرب تموت الأم، فينفجر فهد على عمه وعلى هذه الأفكار التي تقترب من حد الجريمة فـ”لم تكن لحظات المستشفى والإسعاف وموت الأم معذبة وصراعه مع عمه وابنه، وحواره مع المحقق وموضوع التنازل والقاضي والمحكمة والمغسلة والجامع والمقبرة هي لحظات مألوفة لديه، بل كانت لحظات رعب وقلق وخوف، لحظات جديدة ومريعة تشبه لحظة من خرج من عتمة شقة صغيرة إلى فضاء وحشي سديمي ثقيل ومؤلم يجلب الريبة في تفاصيله، كان نقياً وديعاً، يدمن رائحة الزيت ويحب الورد والموسيقى والفنون والحياة البسيطة الواضحة كالشمس، ويحب طرفة أيضاً (التي وقعت معه في فخ الهيئة) لكنه الآن بدأ الخطوة الأولى في عالم غامض وغريب يحاكمه ويتآمر ضده، كان في مشهد رومانسي حميم (مع طرفة) من فيلم طويل جداً تلته فجأة جلبة وقع حوافر خيل وسيوف وطلقات رصاص ومعركة ورؤوس وأشلاء تتطاير في الأنحاء.
وفي مواجهة المأساة: تعالي هنا يا أمي.. لا تطيري بعيداً، أريد أن أحادثك وأن أفضي لك بلوعتي، هذه البلاد الغريبة التي نعيش على أرضها خائفين، في البيت والشارع والعمل والسيارة، هذه البلاد التي لا تصحو صباحاً دونما هزة في اليدين أو قشعريرة ما تنتاب أجسادنا، أكلت قلبك ورمتك في ثلاجة الموتى، ألم يعلنوا قبل أيام عن ساحرة إفريقية سوداء عارية ركبت مكنسة وطارت من الدور الثاني حتى الدور الرابع بالمدينة المنورة؟! يا إلهي.. لقد نشرت صحفنا العظيمة الخبر، صحفنا كأنما تؤكد تصريحات رجال الحسبة، رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين رأسوا الساحرة وهي تطير.
ويشعر فهد وهو يخاطب روح أمه الطاهرة أنه ليس في العالم الواقعي بل في حلم أو فيلم، كأنه يشعر بكائن أسطوري هائل يجلس في الأعالي، ويدير بكرة فيلم خرافي، فيستمتع أولاً ثم يضحك بشدة، ويفكر أنه حين تفريغ بكرة الفيلم سيرمي بها في المزبلة ثم يذهب وشأنه، بينما نحن نتقافز كالكلاب.
ويتساءل فهد: كم مرعب أن تجلس بجوار قتلة باردين. ومن البداية حيث اعتقاله مع حبيبته من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوسط لإخراجه من هذا المأزق الخطير عمه بالذات، وفي حوار مع صديقه سعيد:
– الواسطة يا عم
– أي واسطة
– عمك..
– اللعنة عليك وعلى عمي.. يا سعيد، عاد ما في غير عمي القاتل يتوسط لي واطلع من مزبلتهم..
فالموضوع لو تشعب وطال، يمكن يصل للإعدام أو بسجن طويل تفقد فيه حياتك ودراستك ـ كما يقول له سعيد ـ لأن عملك له علاقات معهم، لا تنسى أنه يعرف الكبار منهم وأكثرهم يصلّون معه في مسجده وتربطه بهم مصالح ومنافع.
وظل بال فهد مشغولاً على طرفة التي قبضوا عليها معه: هل سلّموها لأهلها أم اقتادوها إلى دار رعاية الفتيات.. وما موقف أهلها، أخوها عبدالله تحديداً تجاه ما حدث وماذا قالوا لصغيرتها سارة عن أمها؟ يا الله.. كما هو جارح هذا البلد! كم مكلف فنجان قهوة عابر مع امرأة عابرة؟!
ويأخذ فهد قراره بالمغادرة حسبما خطّط من البداية بالرحيل إلى قرية بعيدة في بريطانيا والتفرغ للرسم.
شعر
ربما هذا اختصار للرواية، التي من الصعب اختصارها وهي في نحو 370 صفحة، وقد مرت في لحظات من اللغة الشعرية التي عوّضت قساوة النص، وجحيم الحياة وتقاليد صارمة لا تعرف الرحمة، وفي حديث الريشة ما ينبئ عن شعرية الكاتب لو توجّه إلى كتابة الشعر: وريشة ضالة أنا، وحيدة وعارية وحزينة لا أحد يعرف تاريخي وأسراري، فلم أسقط من طير البط النافض ريشه على شط العرب في جحيم الطائرات الأميركية، لم أطر من هناك متأرجحة في الهواء عابرة الصحراء المؤججة بدخان الحرب، لم أطر محلقة بجنون وضحكات حتى سطح بيت في حي البشر ببريدة، لا . لم أفعل. كنت مجرد ريشة طائر حمام أحب المدينة الصامتة، المدينة المخاتلة التي تنام على شهوة ودعارة وتصحو على صلاة الغجر!!!
“الحمام لا يطير في بريدة” رواية قاسية، مكتوبة بحرفية كاتب متولع من ما يحدث في بلده الذي يحبه ويريده أجمل البلدان.. الرواية كلها تنتقل بالتداعي من حادثة الهيئة التي أمسكت بفهد وطرفة، إلى لحظة الإفراج عنهما.. ربما بحساب الزمن ليلة ونهار أو ليلتين ونهارين، حيث تكرّ الأحداث كشلال مندفع يشق طريقه في التربة ليشكّل مجرى، مجرى حياة لا تتوقف أبداً.
جريدة المستقبل- الجمعة 6 تشرين الثاني 2009
0 تعليق